في البداية والنهاية كان العنب!

TT

نعم صدقت يا شاعرنا القديم:

أهابك إجلالا وما بك قدرة

عليَّ ولكن ملء عين حبيبها

أي والله ولا ملأ العين والأذن والخيال والأحضان إلا الحبيب.. وحده الذي له المهابة والأبهة..

فأنا في مدينة صغيرة اسمها «إيمولا» أرجو أن تنطقها هكذا.. أن تطيل حرف الألف المكسورة وأن تخطف اللام برفق. فاسمها موسيقي غنائي.. وهم عندما ينطقون هذا الاسم يتغنون به. صدقني كلما كنت أسمع هذا الاسم أقول: كأنني سمعت أم كلثوم.. حتى لو نطقها الرجال فهم جميعا أم كلثوم؟

كانت هذه المدينة التي على شاطئ البحر الأدرياني في شمال شرق البلاد عاصمة.. وككل العواصم أقاموها وجاءت القوات الغازية وهدمتها وأقامتها وأجلستها واحتضنتها وطردتها.. وبقيت في موقعها تحكي القديم والجديد.. والذين جاءوا والذين ذهبوا.. فلا شيء يذهب بعيدا.. فليس أسهل من استدعائه ويعاد التاريخ حكايات ونوادر وأغاني وقبلات ودموعا..

قالت لي سيدة وزوجها: أنت اليوم ضيفنا وسوف ندعوك إلى أجمل وليمة.. هل تحب أن تتكلم أثناء الطعام.. ولم أنطق.. وكان معنى ذلك أن الوليمة بدأت، فنحن جميعا على العين بالألوان والأذن بالصمت، ولا أعرف أين القلب من العقل وأين المعدة.. كل شيء انفتح على كل شيء.. وقفت بنا السيارة ووقف الكون يتفرج علينا أو نتفرج عليه.. ومع أن الذي نراه قليل إلا أن هذا القليل هو خلاصة الجمال فوق الجبال، فوق السحاب.. وعرفت السبب أنهم في بيوتهم يحلمون بما رأوا.. ينقلون الدنيا إلى فراشهم.. يقومون بإحياء ما كان. كم ألف مرة سمعت كلمة «إيمولا» إنها تتكرر بلا ملل، كما تتكرر حقول العنب يمينا وشمالا.. كأن الناس هنا لا يأكلون إلا العنب ولا يشربون إلا عصير العنب. لم أر حقلا واحدا للقمح ولا رأيت فاكهة أخرى.. سألت مداعبا: ألم يأت هنا الشاعر دانتي أو الفنان دافنشي؟

وكان السؤال إهانة للبلد الجميل.. وكانت حكايات وعبارات جاءت في خطابات دانتي وفى رسائل دافنشي.. فهي إهانة كبرى ألا يجيء واحد من هؤلاء، وحتى إذا لم يأت فكيف لا يذكر «إيمولا»، ثم كيف لا أذكر أنا ذلك.. كيف أنسى هذه الوليمة الأبهة.. وليمة الألوان والجمال والموسيقى والصفاء والنقاء والأبدية!