باكستان: مقتل محسود يعيد الجيش إلى منطقة القبائل

TT

قبل أشهر من اغتياله، أرسل «بيت الله محسود» عدة رسائل إلى قائد الجيش الباكستاني الجنرال اشفق برويز قياني، يطلب فيها التفاوض من أجل التوصل إلى وقف لإطلاق النار. لكن حامل الرسائل، العضو السابق في البرلمان الباكستاني شاه عبد العزيز اعتقل. وأرسلت المؤسسة العسكرية ردا إلى محسود، بأنه لن يمنح أي فرصة، وأن أمر القضاء عليه قد صدر.

وفي الخامس من الشهر الجاري، كان محسود المصاب بداء السكري، ينام مع زوجته الثانية وسبعة أو ثمانية من حراسه على سطح منزل حماه، عندما قامت طائرة أميركية من دون طيار، بتوجيه صواريخها إلى ذلك المنزل عند الساعة الثالثة بعد منتصف الليل بالتوقيت المحلي فقضي على الجميع.

تأكيد موته جاء من غريمه في جنوب وزيرستان حاجي تركستان بيتني، إضافة إلى الحكومة الباكستانية، وجماعات من حركة «تحريكي طالبان باكستان» التي كان بيت الله محسود أسسها. ولو لم يقتل ما كان تصادم قادة مجلس الشورى الذين اجتمعوا لاختيار خليفة له. وذكرت التقارير أن حكيم الله محسود قد قتل. وقتل أيضا ولي الرحمن، ومفتي نور والي، الأمر الذي يوفر الوصول إلى القيادة لقائد غير معروف من «طالبان» باكستان، هو «عظمة الله». كل من سبق بيت الله محسود إلى قيادة «طالبان» قضى قتلا، مثل نيك محمد، قتل في غارة أميركية جنوب وزيرستان عام 2004، وعبد الله محسود قتل أثناء تبادل لإطلاق النار مع القوات الباكستانية في مقاطعة بلوشستان عام 2005.

بعد هزيمة «طالبان» في أفغانستان أثر الغزو الأميركي عام 2001، عبر قادة عرب أفغانستان إلى جنوب وزيرستان، وبدأوا في استعمال أموالهم وايديولوجيتهم لإنشاء جيل من الحلفاء الباكستانيين. ويروي لي صحافي باكستاني ما جرى، فقد تبنى زعيم «القاعدة» في أفغانستان خالد حبيب، وأفضل مدرب في صفوف «القاعدة» أبو الليث الليبي (اعتقل لاحقا) بيت الله محسود، ووفرا له السلاح والسيارات، والاهم، أن زعيم الحركة الإسلامية في اوزبكستان «قاري ظاهر يولداشيف»، وضع مقاتليه الأشداء (2500 مقاتل) تحت إمرة محسود. وصار الأوزبكي الملهم الايديولجي لبيت الله محسود.

وعندما جرت محاولة اغتيال الرئيس الباكستاني آنذاك الجنرال برويز مشرف، شنت الحكومة الباكستانية حملة اعتقالات ضد الجهاديين الباكستانيين، لجأ الكثير منهم إلى المناطق القبلية، فوفر لهم بيت الله وكذلك زعيم «طالبان» الشهير «ملا دادوالله» (قتل لاحقا) الحماية، وأصبح بيت الله أكثر النافذين في منطقة القبائل. ومع عام 2007 كان يرسل مئات المقاتلين إلى منطقة «هيلمند» في أفغانستان ليساعدوا قوات «طالبان» الأفغانية في مواجهة قوات التحالف الغربي في جنوب غرب أفغانستان، كما وفر انتحاريين لـ«القاعدة» في باكستان، وكان يفرض خوات لجمع الأموال.

إن اغتيال بيت الله محسود ما كان ليحدث من دون معلومات أمنية دقيقة عن مكان وجوده، والباكستانيون لديهم كل تلك المعلومات من خلال عملائهم على الأرض في المنطقة، إذ كان بيت الله محسود هدفا رئيسيا للقوات الباكستانية بسبب استهدافه الدائم في العمليات للجيش وقوات الأمن الباكستانية. لم يشكل بيت الله خطرا مباشرا على القوات الأميركية، إنما شغل وقتا طويلا القوات الباكستانية مما خفف من تفرغها لمساعدة القوات الأميركية في أفغانستان، فبدأت الطائرات الأميركية من دون طيار تستهدفه.

من المؤكد أن هذه العملية تمت بالتنسيق ومع معرفة الحكومة الباكستانية، وإذا شعر الجانب الباكستاني بأن العملية الأميركية خدمت أهدافه، فمن المحتمل أن يزداد التعاون والتنسيق بين واشنطن وإسلام أباد. ذلك أن واشنطن تحتاج إلى دعم باكستاني لعمليات أميركية أخرى تستهدف مقرات «القاعدة» و«طالبان» في باكستان وكذلك في أفغانستان. وكان الجنرال الأميركي المكلف بأفغانستان، «ستانلي ماكريستال» قال لصحيفة «وول ستريت جورنال» يوم الاثنين الماضي، إن «طالبان» يحققون انتصارات في أفغانستان، وإنهم «عدو شرس (...) وعلينا أن نوقف اندفاعهم ومبادراتهم».

من خلال الحديث، لا يبدو أن الجانب الأميركي يدرك ظاهرة «طالبان» في أفغانستان، وإذا كانت من دولة تدرك أبعاد تلك الحركة فإنها باكستان التي دعمت «طالبان» أفغانستان لمدة طويلة. هذا يضع باكستان في مرتبة خاصة من حيث تأمين المعلومات الأمنية المطلوبة حول هيكلية «طالبان» أفغانستان، وتحركاتها وأماكن تواجدها. وحسب مصدر أميركي، فإن اغلب هذه المعلومات موجودة لدى جهاز الاستخبارات الباكستانية، «وإذا كانت المعلومات الأمنية التي أدت إلى القضاء على بيت الله محسود جاءت من ذلك الجهاز، فإن هذا يدل على أن الجهاز صار أكثر استعدادا للمشاركة في المعلومات التي يملكها».

قد يكون سبب هذا التحول العملية التي شنتها قوات بيت الله محسود في أيار (مايو) الماضي على مكاتب الاستخبارات الباكستانية في لاهور، فهي دفعت بالمتعاطفين مع «طالبان» في الجهاز إلى تغيير موقفهم المتشدد.

يقول المصدر الأميركي، «إن عملية اغتيال بيت الله محسود، عطلت خطرا رئيسيا على استقرار باكستان، وسوف تسمح للجيش الباكستاني على تغيير استراتيجية مواجهته لقوات «طالبان» باكستان، من الدفاع إلى الهجوم». لكنه يلحظ: «أن التعاون الباكستاني في أفغانستان كان، حتى الآن، محدودا. ذلك أن الباكستانيين يعتبرون «طالبان» أفغانستان، استثمارا لهم إذا أرادوا استرجاع نفوذهم هناك، ويرفضون بالتالي إضعاف هذا الاستثمار، بنظرهم، عبر توفير المعلومات الأمنية للأميركيين».

لكن، هناك العديد من فصائل «طالبان» في أفغانستان، ليسوا على علاقة بباكستان. إنما هم إلى جانب «القاعدة». وترغب الولايات المتحدة أن تساعدها باكستان لمحاربة عناصر «القاعدة» وكذلك أن تساعدها في أفغانستان. ويمكن لباكستان أن تقدم ما لديها من معلومات تتعلق بـ«القاعدة» وقوات «طالبان» المرتبطة بها، إنما لن تريد أن تزعزع علاقاتها مع «طالبان» أفغانستان المرتبطين بها، فهي قد استثمرت فيهم طويلا، ولن تتخلى عنهم.

يقول محدثي: «ستحاول باكستان، بعد مقتل بيت الله محسود، أن توازن ما بين الضروري لها، وتحافظ عليه، وبين توفير المعلومات الأمنية عن عناصر «طالبان» في أفغانستان المرتبطين بـ«القاعدة» وليس بها، فذلك يساعدها في إدارة أفضل لـ«طالبان» أفغانستان وكذلك في حماية أمنها».

ويستنتج من الحوار، باحتمال أن تتبادل واشنطن وإسلام أباد المعلومات الأمنية حول «طالبان» الذين يشكلون عبئا على باكستان وأميركا ولديهم علاقات قوية بـ«القاعدة». ويستبعد أن تتخلى باكستان عن «طالبانها» الأفغان.

من المحتمل أن يضعف مقتل بيت الله محسود فصائل «طالبان» المعادية لباكستان، وسوف تستغل المؤسسات العسكرية والأمنية هذه الفرصة لمضاعفة الانشقاقات بين أطراف «طالبان» لديها. وسوف تركز على حركة «تحريكي طالبان باكستان» المنظمة التي أثبتت قدرتها على شن عمليات ابعد من منطقة القبائل، شمال غرب البلاد، والوصول إلى الداخل الباكستاني.

وكانت الاستخبارات الباكستانية بدأت تؤمن الدعم لدى أطراف قبلية مناوئة لبيت الله محسود تتعاطف مع «طالبان» أفغانستان، مثل «مولوي نظير» الذي ينتمي إلى قبيلة في جنوب وزيرستان، و«حافظ غول باهادور» من قبيلة في شمال وزيرستان. الاثنان ظلا لفترة يتجنبان الهجوم على أهداف باكستانية، لكن مؤخرا تبنى «غول باهادور» موقفا عدائيا من إسلام أباد، وأمر بعملية انتحارية ضد قافلة عسكرية كانت تعبر شمال وزيرستان فقتل أكثر من 20 جنديا وضابطا. إن موت بيت الله محسود قد يعيد تركيز باكستان على نشاطات «غول باهادور»، أما «مولوي نظير» فطالما أنه يشن هجمات داخل أفغانستان وليس في باكستان، فإن القوات الباكستانية لن تهاجمه.

الآن، إذا صدقت التقارير وتأكد أن «حكيم الله محسود» قتل هو الآخر في جلسة الصراع على خلافة بيت الله محسود، فإن عمليات «طالبان» باكستان في مناطق كورام، وخيبر واوراكزاي (التي كان حكيم الله مكلفا من قبل بيت الله بالتحكم بها من أصل سبع مناطق) تكون قد تعرضت لضربة كبرى. وهذا يعني بالتالي، أن الجيش الباكستاني بدأ يستعيد سيطرته في شمال وجنوب ووسط منطقة القبائل الحدودية، وبالتالي سيكون صعبا على مقاتلي «القاعدة»، خصوصا من غير الباكستانيين والأفغان، الاستمرار في الاختباء هناك.