الأردن.. حقيقة زوبعة بطاقات الضفة الغربية

TT

لأن لغطا كثيرا أثير حول البطاقات الصفراء والبطاقات الخضراء وحول وضع الفلسطينيين في الأردن، ولأن كتَّابا في صحف عربية «محترمة» ركبوا هذه الموجة، وشاركوا بقصف عشوائي، بدون أن يكلفوا أنفسهم عناء البحث عن حقائق الأمور، وعمموا ما هو عليه وضع اللاجئين في لبنان وبعض الدول العربية الأخرى، على الأردن، فإنه لا بد من التحدث عن هذه المسألة كما هي على أرض الواقع الآن وفي السابق، وحتى قبل مؤتمر أريحا الشهير في بدايات خمسينات القرن الماضي، الذي اتخذ قرارا تاريخيا بأن تكون الضفة الغربية جزءا من المملكة الأردنية الهاشمية.

كانت العلاقات التكاملية بين الأردن وفلسطين كلها قد بدأت قبل قيام الدولة الإسرائيلية في عام 1948، وقبل مؤتمر أريحا هذا المشار إليه آنفا، الذي، وللأسف، لم تعترف بنتائج قراراته ولا دولة عربية واحدة، واقتصر الاعتراف على دولتين فقط هما باكستان والمملكة البريطانية، وكان معظم رجالات الدولة الأردنية التي تشكلت، مثلها مثل غيرها في بدايات عشرينات القرن الماضي، من «الأشقاء» الفلسطينيين، ومن مستوى رئيس الوزراء، إلى مستوى مدير مدرسة ابتدائية، ومدير دائرة صغيرة.

لم تكن هناك أي تفرقة بين الأردني والفلسطيني، ولعل من يكلف نفسه بمراجعة هذه المسألة، بعيدا عن الانحيازات المسبقة، وعن الموروث الذي تركته مرحلة خمسينات وستينات القرن الماضي، وما خلفته في أذهان الأجيال المتلاحقة، فترة صراع المعسكرات، سيجد أن الغالبية المطلقة من رؤساء الحكومات الأردنية السابقين من أصول فلسطينية، وأن أول مرة يتم فيها اختيار رئيس وزراء من أصول أردنية ـ أردنية، وهو الشهيد هزاع المجالي، تأخرت حتى عام 1955.

ربما أن هذا ليس معروفا لبعض الأشقاء العرب، ومن بينهم بعض الكتاب في صحف عربية محترمة، وربما أنه غير معروف أيضا أن كل اللاجئين الفلسطينيين الذين اختاروا اللجوء إلى الأردن قبل مؤتمر أريحا، وقبل وحدة الضفتين قد حصلوا كلهم، وبدون استثناء، بغض النظر عن المناطق التي جاءوا منها، إن من حيفا في الشمال، وإن من يافا من الجنوب، وإن من الجليل أو من بعض مناطق الخليل، على الجنسية الأردنية وأصبحوا مواطنين كاملي المواطنة، وأردنيين لهم كل حقوق الأردنيين «الأصليين» من إشغال المناصب العليا في الدولة، والالتحاق بالقوات المسلحة وبالأجهزة الأمنية، إلى حق التملك والمساهمة، حتى أكثر من أشقائهم أبناء البلاد الأساسيين في البناء والإعمار والحياة الاقتصادية.

كل هذا جرى وتم قبل وحدة الضفتين التي رغم أنها كانت أفضل وحدة عرفها العرب حتى الآن، والتي كانت اندماجا حقيقيا بعيدا كل البعد عن الابتلاع والصيغ الإلحاقية، فإن الدول العربية لم تعترف بها ولم تؤيدها، والأسباب هنا كثيرة ومتعددة، واقتصر مثل هذا الاعتراف على الدولتين الآنفتي الذكر، باكستان التي كانت قد استقلت حديثا عن الهند بقيادة القائد المظفر علي جناح، وبريطانيا العظمى التي كانت تشكل القوة الاستعمارية الأكبر في هذه المنطقة.

وبالمقابل فإن المعروف أن من لجأ من الفلسطينيين إلى دول عربية أخرى تحت ضغط «النكبة»، وبعد ذلك قد وضعوا في «محتشدات» معزولة عن مجتمعات الدول التي لجأوا إليها وهم عوملوا، وما زالوا يعاملون، بطرق وأساليب غير إنسانية، وحرمت مخيماتهم من أدنى الخدمات، وزودوا بوثائق لا تمكن من يخرج منهم من الدولة «المضيفة» من العودة إليها، وكل ذلك بحجة الاستعداد ليوم التحرير، وبحجة أن لا ينسى هؤلاء وطنهم المغتصب.

الكل يعرف مدى البؤس الذي لا تزال تعيشه مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، وكيف أن القوانين النافذة في هذا البلد العربي تمنع الفلسطيني اللاجئ من مزاولة الكثير من المهن والأعمال، وكيف أنه محرَّمٌ عليه إشغال حتى أدنى درجات الوظائف الحكومية وأدنى درجات الوظائف في الشركات الخاصة والقطاعات الأهلية، وهذا ينطبق بحدود أقل على لاجئي سوريا، وعلى لاجئي العراق، وكل هذا في حين أن لاجئي الشقيقة الكبرى مصر قد زوّدوا بوثائق سفر لم تسمح لأي منهم، حتى في ذروة المرحلة الناصرية، من العودة إلى الأراضي المصرية، إن لم يحصل مسبقا على إذن لمثل هذه العودة.

إن هذه هي حقائق الأمور التي كان لا بد من تسليط الأضواء عليها بعد الحملة التي تعرض لها الأردن في الآونة الأخيرة، والتي شارك فيها كتاب في صحف عربية محترمة بقصف عشوائي بدون بذل أي جهد لمعرفة ولو جزء من هذه الحقائق التي من بينها أن عملية الفرز بالنسبة للفلسطينيين والأردنيين في الضفة الغربية لم تبدأ إلاَّ بعد قرار قمة الرباط الشهيرة في عام 1974 الذي صدر باسم العرب كلهم، ونصَّ على أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.

بعد هذا القرار الذي التزم به الأردن انسجاما مع الإرادة العربية الموحدة واجه الأردنيون مشكلة من يمثل الأردنيين من أصول فلسطينية وكيف من الممكن أن تمثل منظمة التحرير هؤلاء، في حين أنهم مواطنون أردنيون لا يختلفون في شيء عن المواطنين من أصول أردنية، وحقيقة أن قرار قمة الرباط هذا المشار إليه قد دق إسفينا كبيرا في اللحمة الوطنية الأردنية، وبخاصة أن منظمة التحرير لم تبادر إلى إيضاح أن هذا القرار إن هو ينطبق على فلسطينيي الضفة الغربية فإنه لا ينطبق على أردنيي الضفة الشرقية من أصول فلسطينية.

لم يقطع الأردن صلته بأهل الضفة الغربية، وفي مقدمتهم أهل القدس، إلا بعد ما أصرت منظمة التحرير في قمة الجزائر العربية في عام 1988 على ضرورة أن تنهي الدولة الأردنية علاقاتها مع هؤلاء، ولقد كان ذلك القطع مخففا واقتصر على الروابط الإدارية، حيث بقي هؤلاء يحتفظون بجواز السفر الأردني، ولمدة خمسة أعوام، ومع اشتراط أن يحصل كل واحد منهم على وثيقة إسرائيلية اسمها «لمّ الشمل» تعطيه الحق الكامل بالعودة إلى وطنه في حال مجيئه إلى الأردن من الضفة الغربية.

وبهذا فإنه لم يتم سحب جواز السفر الأردني من أي مواطن أردني من أصول فلسطينية لا من لاجئي عام 1948 ولا من الفلسطينيين الذين كانوا التحقوا بالدولة الأردنية عند تشكيلها وبعد ذلك، وأن الأردن، حرصا على بقاء الفلسطينيين من أهل الضفة الغربية في وطنهم، كان ولا يزال يمنح كل من يحمل من هؤلاء جواز السفر الأردني ووثيقة «لمِّ الشمل» الإسرائيلية بطاقة صفراء لدى انتقاله من الضفة الغربية إلى الضفة الشرقية تثبت أنه أردني كامل الأردنية، وأنه فوق ذلك، وبناء على وثيقة «لمّ الشَّمل» هذه له حق الفلسطيني الذي من حقه الرجوع إلى وطنه، وله حق اللاجئ الذي له حق العودة وفقا للقرار الدولي رقم 194.

مرة أخرى إن هذه هي الحقيقة، وإن المؤكد أن هذه الضجة التي أثيرت لأغراض سياسية لا تخدم إلا المشاريع والخطط الإسرائيلية التي هدفها تحقيق مؤامرة «الوطن البديل»، سببها أن السلطات الأردنية لجأت إلى الضغط على كل من تأخر عن تجديد «لمِّ الشمل» هذا الذي هو وثيقة ملزمة للإسرائيليين بأن من حق حاملها العودة إلى وطنه الذي غادره إلى الأردن باستبدال بطاقته الصفراء، التي تعني أنه أردني كامل الأردنية، وأن الفرق بينه وبين الأردني الآخر هو حقه في العودة إلى وطنه، بالبطاقة الخضراء التي تعني أنه وإن كان يحمل جواز السفر الأردني فإنه غير أردني، ولا يحق له حمل الرقم الوطني الأردني، ثم إن هناك حقيقة أخرى وهي أن الدولة الأردنية عندما تقوم بهذه الإجراءات فإن دافعها الإبقاء على الفلسطينيين في وطنهم فالصراع مع الإسرائيليين هو على الأرض، وهو على هوية هذه الأرض وعلى قيام الدولة الفلسطينية المستقلة المنشودة على حدود الرابع من يونيو «حزيران» عام 1967.