أردوغان.. والرقصة بوتينية

TT

زيارة العمل التي قام بها رئيس الوزراء الروسي فلادمير بوتين إلى أنقرة والتي استغرقت 9 ساعات فقط صنفها معظم الخبراء والمتابعين لملف العلاقات التركية ـ الروسية على أنها الإنجاز الاستراتيجي الأكبر والأهم في تاريخ العلاقات بين الجانبين الذي شهد على مدى العصور خضات كثيرة ومطبات هوائية وأزمات تحولت إلى حروب دامية ما زالت سلبياتها وانعكاساتها تتحكم حتى اليوم.

تركيا التي لم تنجح في إقناع البعض بقبول نظرية جسر العبور التي روجت لها منذ عقود طويلة لأكثر من سبب تاريخي وجغرافي وسياسي يبدو أنها حققت ما تريده هذه المرة من خلال توقيع أكثر من 20 عقدا من التعاون وتبادل الخدمات أهمها دون شك اتفاقية الشراكة في استخراج ونقل النفط والغاز من مناطق القوقاز والبلقان وآسيا الوسطى وإيصالها إلى أوروبا والشرق الأوسط على السواء ضمن خطوط نابوكو و«التيار الأزرق» و«حلم الجنوب» هذه المرة.

المؤكد طبعا أن عوامل كثيرة داخلية وخارجية في البلدين دفعتهما لفتح صفحة جديدة من العلاقات بين الجارين العدوين على مر العصور. تعامل موسكو مع المجريات الدولية بالمزيد من الواقعية المصحوبة بالحسم والكشف عن الأنياب عند الضرورة وتخوف أنقرة من فشل المشروع الأوروبي وجهوزية إيران لملء كل فراغ استراتيجي تتركه وينعكس عليها سلبا في كل مرة هي في مقدمة العوامل التي جمعت الماردين أمام طاولة توقيع عقود ترفع حجم التبادل التجاري التركي ـ الروسي الذي تضاعف 6 مرات في السنوات الخمس الأخيرة ليصل إلى 38 مليارا لكن الهدف البعيد المدى الذي حدده الأتراك خلال السنوات العشر المقبلة هو 100 مليار دولار.

في منتصف الخمسينات وفي أوج الحرب الباردة كانت الحدود التركية ـ الروسية تمثل رأس حربة هذه المواجهة وأشدها سخونة والأكثر تعرضا للضرر والخسائر كونها موقع المجابهة الأيديولوجي الأهم والأوسع بين محوري الشرق والغرب أما اليوم وبعد أكثر من نصف قرن نجد الأتراك والروس يجلسون جنبا إلى جنب ويعدون لتقاسم النفوذ والمصالح بحضورومشاركة عراب التقارب التركي ـ الروسي في محور قزوين ـ سامسون النفطي رئيس الوزراء الإيطالي برلسكوني التي وجد فيها فرصة لاسترداد الأنفاس بعد الكثير من الحملات الإعلامية التي تطارده في الداخل بسبب علاقاته الغرامية.

الكل يعرف أن خطوط التماسّ كثيرة تشيد منذ أكثر من 20 عاما على جبهات المواجهة الروسية ـ الإيرانية ـ التركية في البلقان والقفقاس وآسيا الوسطى وأن قلب المواجهة هو البحر الأسود الذي ظل طيلة عقدين بعيدا عن متناول اليد الأميركية ضمن اتفاق حماية المصالح التركي ـ الروسي فهل ستقبل واشنطن بتعزيز هذا التقارب وتحويله إلى تعاون استراتيجي من هذا النوع أم أن العقود التركية الموقعة تأخذ بعين الاعتبار حصة أميركا ودورها ونفوذها شرط أن لا تتجاوز الخط الأحمر الممثل باتفاقية المضائق الموقعة في أواخر الثلاثينات والتي تكرس الهيمنة التركية على هذين الممرين المائيين؟ بصورة أوضح تركيا تعرف تماما وهي تندفع على هذا النحو باتجاه موسكو أنها تسعى للخروج من مأزق الحرب الجورجية الذي انعكس عليها سلبا وأزعج الروس إلى أبعد الحدود وهي تعرف أيضا أنها تغامر بعلاقاتها التي تحسنت مؤخرا مع أوكرانيا القلقة من الانعكاسات السلبية للاتفاقيات التركية ـ الروسية لكنها تعرف وهو الأهم أن ما يجري لا يمكن أن يكون على حساب واشنطن التي أطلقت خطة مصالحة شاملة مع الأتراك قبل أشهر والتي وسعت من رقعة تحالفاتها مع دول أوروبا الشرقية خلال السنوات الخمس الأخيرة في محاولة لإقحام نفسها شريكا استراتيجيا في صنع سياسات البحر الأسود الجديدة.

كيف ستتعامل الولايات المتحدة الأميركية تحديا مع مشروع عودة الروح إلى حلم الأورو آسيوية الذي يراهن عليه بعض القوميين الأتراك والروس رأوا فيه البديل الدائم للشراكة الاستراتيجية التركية ـ الأميركية وحلم اليقظة التركي في دخول الاتحاد الأوروبي الذي يصطدم بالحقيقة المرة كلما استردت أنقرة أنفاسها؟

نقطة أخيرة لا يمكن تجاهلها أمام التقارب التركي ـ الروسي هذا وهي الاستفسار عما إذا كانت تركيا تسعى من وراء تقاربها الجديد مع روسيا هذا إلى مطالبة الأخيرة بسياسة جديدة في مسائل تزعج الأتراك وتعرقل حرية تحركهم الإقليمي مثل الأزمة في قره باغ والملف الأرمني الذي تتحكم موسكو بالكثير من خيوطه والذي دخلت سوريا مباشرة على خطه عارضة وساطتها التي تُعتبر أساسا وساطة بين الأتراك والروس قبل أن تكون بين الأتراك والأرمن؟ تقول الطرفة التي تتردد في سواحل البحر الأسود التركية التي تعرضت لغزو الحسناوات الروس في السنوات الأخيرة إن «تمل» شخصية المنطقة المعروف ببساطته وسذاجته سأل زوجة المستقبل ناتاشا ليلة الزفاف: هل سأكون أنا أول من ينام إلى جانبك فسارعت إلى الرد.. طبعا إذا ما غفوت.

المؤكد هذه المرة أن الأتراك والروس في حالة من التيقظ الكامل فلا أحد يريد أن تنطبق عليه صفة الزوج المخدوع أمام عشرات المليارات من المشاريع والخطط الهادفة إلى إعادة تنظيم ورسم خرائط حركة مرور وانتقال الطاقة بين أكثر من منطقة وبقعة في العالم.