هل في إسرائيل دوغول؟

TT

كان تظاهر شباب جماعة «السلام الآن» الاسرائيلية للاحتجاج على احتلال بيت الشرق في القدس، وفي الايام التي تلقى فيها الاسرائيليون اكثر من ضربة موجعة، حدثا لا يمكن الا ان نتوقف عنده بالدراسة والتحليل والاستنتاج.

ولقد تصورت، للحظات، ماذا يمكن ان يحدث لو انقلبت الآية، وكانت عملية القدس الاستشهادية عملا انتحاريا قام به اسرائيلي في بلد عربي، ومع كل الفروق والتحفظات.

واذا كنت انا اشعر بالتقدير لأولئك الشباب، فلا بد ان كثيرين مثلي يحسون بنفس المشاعر، لكنني اخشى ان تستولي عواطفنا على الصورة ولا تعطي الفرصة لعقولنا لتتدبرها ولتفهم كل دلالاتها، خصوصا وقد قمعت الشرطة الاسرائيلية التظاهرة، وطبعا بدون مغالاة كمغالاتنا في قمع التظاهرات التي تقوم في بلادنا العربية منددة بإسرائيل، هذا اذا سمح لها بالتظاهر اساسا، وتوقفت جل وسائل الاعلام الاوروبية التي تابعتها عند ابراز الفعل الثائر والحضاري، ورد الفعل الحازم والمتزن.

ولأنني ابن من ابناء الثورة الجزائرية اجد من الطبيعي ان اتذكر بعض احداثها المشابهة.

ولقد عرفنا حجما معتبرا من التضامن الفرنسي الشعبي مع كفاحنا التحريري، خاصة عندما نجحنا في زرع التناقض داخل المجتمع الفرنسي نفسه، واضعفنا الاجماع الشعبي حول سياسة السلطة الاستعمارية، وشجعنا تعاطف المواطن الفرنسي العادي مع ثورتنا، لكن اساس التعاطف الصلب كان تواصل العمليات الجهادية، وهي نقطة بالغة الاهمية.

وهكذا سارت قوافل المتظاهرين الفرنسيين في شوارع باريس والمدن الكبرى، بعد الضربات الموجعة التي وجهها الثوار الجزائريون لقوات الاحتلال، وهي تظاهرات كانت، في معظمها، لآباء وامهات المجندين في الجزائر، وهي وضعية آمل ان يعيشها الاسرائيليون في الارض المحتلة، عندما يدركون انهم هم الذين يدفعون ثمن قمع شارون للفلسطينيين، وهو ما يعني رفض أي دعوة لايقاف المقاومة وخارج التصريحات التكتيكية التي تبقى من حق القيادة الفلسطينية وحدها، او بالتنسيق معها.

وعرفت فرنسا ايضا تظاهرات فرنسيين رأوا ان بلادهم تنزف حماية للمستوطنين الفرنسيين الذين يتحملون مسؤولية تصلب الخطاب الرسمي الفرنسي تجاه المطالب المشروعة للشعب الجزائري، وكذلك ردود فعل مثقفين فرنسيين هالهم ما تورطت فيه بلاد الحرية والاخاء والمساواة من تقتيل وتعذيب وتشريد للشعب الجزائري.

وفي طليعة هؤلاء تجد مناضلين فرنسيين وقفوا ضد حكومتهم في سبيل نصرة جبهة التحرير الوطني، التي كانت تواصل العمل المسلح، ومن اولئك المناضلين من مات تحت التعذيب في السجون الفرنسية، ومنهم من لوحق طويلا بتهمة خيانة المصالح العليا لفرنسا، التي كانت ترفع شعار: «الجزائر فرنسية».

لكن، هل كان اولئك الفرنسيون الأحرار فعلا ضد فكرة «الجزائر فرنسية»؟

ذلك ان السؤال الذي يجب ان يطرح، ببرودة التحليل السياسي الموضوعي والمحايد، هو: كم من اولئك الشرفاء قام بما قام به من اجل ان تقوم على اشلاء الوجود الفرنسي جزائر عربية مسلمة، غير منحازة ولا متحيزة، لا ترتبط مع الدولة المستعمرة السابقة الا بنفس الروابط التي ترتبط بها مع بقية دول العالم، من امريكا الى موزمبيق؟.

والواقع هو ان اولئك المناضلين كانوا مواطنين فرنسيين يعشقون بلادهم ويدركون ان بطش السلطة الاستعمارية يضحي بالوجود الفرنسي المستقبلي في الجزائر.

وعلى دربهم سار الجنرال شارل دوغول، الذي اعطى جيشه عامين كاملين لسحق الثورة، وعندما فشل جنرالاته في تحقيق النصر انتزع منهم المبادأة، وقرر ان يضمن الجزائر الفرنسية بطريقته، وسيجد قراء مذكرات دوغول رأيه كاملا في ضرورة اخراج فرنسا من مستنقع الحرب الجزائرية، وتخليصها من غباء المستوطنين وقادة الجيش الاستعماري، الذين لم يفهموا ان جزائر «بابا» قد انتهت الى الابد.

وكان المهم هو ان المقاوم لم يتوقف عن الكفاح في انتظار للمفاوض، وان المفاوض كان لا يساوم على المقاومة ويجد فيها رصيده التفاوضي مع العدو ورأسماله مع الصديق.

ورغم ان عناصر الاسقاط تفرض علي الآن ان اقارن ذلك بما تعيشه الاراضي المحتلة، فإنني اترك ذلك للقارئ، مفضلا التركيز على مواقف بعض مثقفينا، الذين يتحمسون في الدعوة للاستفادة من جماعات السلام الاسرائىلية لانتزاع بعض الحقوق العربية، وهو امر معقول بشرط ألا يتصور هؤلاء بأن مصداقيتهم لدى الطرف الاسرائيلي تمر عبر الضغط على الجانب الفلسطيني، فالمطلوب هو العكس.

وبعيدا عن المزايدات والمناقصات يجب ان نفرق بين امرين.

الاول هو حق المثقف المطلق في التعبير عن رأيه، المنادي بضرورة دعم جهود اليسار الاسرائيلي المنادي بالسلام، ولا بد ان، بعد التأكد من وزن هؤلاء الفعلي على الساحة الاسرائىلية، ان نحترم شرطين، اولهما الا يكون منطلق الرأي ان شعوبنا سئمت الحرب وهي تريد السلام بأي ثمن، لأن هذا تسليم مسبق بشرعية العدوان ووضع للسلاح قبل ان يتحقق الهدف من حمله.

وثاني الشروط ان نسترجع تفاصيل الكفاح الجزائري، ولا نتصور لحظة واحدة ان الاسرائيلي سوف يتخلى طوعا عن اهدافه القومية، وإن تخلى عن بعض اهدافه التوسعية.

وهذا يقودني الى الامر الآخر، الذي يتمثل في تحول الرأي الى مواقف يتصور اصحابها ضرورتها لتحقيق ذلك الهدف، وان كانت في واقع الامر تطبيعا عمليا للعلاقات مع اسرائيل، كدولة وككيان وكمجتمع، وهذا مرفوض، لأنه لا مجال للمبادرات الفردية في القضايا المصيرية، وليس من حق المثقف القيام بما يضعف قوة بلاده التفاوضية مع العدو، او في اتخاذ مواقف تلزم امته وشعبه بشكل غير مباشر.

باختصار، الرأي حق لكل مثقف، لكن الفعل يجب ان يندرج في سياق جماعي، لأن هذا هو منطق ادارة الصراع، وزيارة الكيان الصهيوني تندرج في هذا المنطق.

وانا لست ضد أي زيارة تتم في اطار ذكي مدروس، يعتمد على معطيات علمية، بل اكثر من ذلك، على معطيات مخابراتية تضمن ألا يتحول الزائر الى ألعوبة في يد المضيف، الذي نعرف قدرته على الترهيب والترغيب، وعلى الايذاء والاغراء.

ولا اتصور ان زيارة امريكي لكوبا او صيني لموسكو او اسرائيلي لعاصمة عربية هي عمل فردي معزول، لا ينتهي بتقرير مفصل يقدم الى مصالح يهمس باسمها همسا.

ومن السخف ان اقتنع بجدية زائر يقسم بأنه «يريد ان يعرف العدو»، لأنني اعرف من بين من زاروا اسرائيل افرادا ذهبوا بدون أي دراسة حقيقية للكيان الصهيوني ولتاريخه ومطامحه ومطامعه، ومنهم من لم يكن يعرف الفرق بين الاشكيناز والسفارديم، ولا يفرق بين اراضي 1948 واراضي 1967.

وفي زمن تقدم فيه «الانترنت» كل المعطيات المعلوماتية المطلوبة، لست أرى ما هي المعلومات التي سيأتي بها زائر لا يعرف اللغة الاسرائيلية، ولا يملك حتى خريطة سياحية مفصلة للبلد الذي لا تتجاوز مدة زيارته له عدة ايام، ولا يملك بالطبع حق التجول، حيث يريد، بل ولا يعرف بالضبط ما هي الاماكن التي يجب ان يزورها والشخصيات التي يجب ان يلتقي بها والمواقع التي لا تكتمل زيارته الا بالتعرف عليها.

ومحصلة زيارات من هذا النوع هو ان العدو الاسرائيلي يقدمها لحلفائه كنجاح في تحييد شرائح من المجتمع العربي، ويحول به بعض البسطاء عندنا الى أبواق تتحدث عن مجتمع لم يروا منه الا ما مكنوه من رؤيته، ومنها من يتناقض مع ثوابت أمته.

فالامور تتم من جانبنا بشكل اعتباطي ساذج، وهذا يعطي لمؤسسات مدربة في اسرائيل فرصة استثمار الزوار، واعدادهم لعمل مستقبلي قد ينحرف بهم الى ممارسات تتناقض مع مصلحة الامة، وبهم يتأثر الذين يشككون اليوم في اشرف ظاهرة عرفها الصراع العربي الاسرائيلي وهي المقاومة، بل ويجرمونها وينادون بايقافها.

والسؤال الذي يفرض نفسه على المؤمنين بوجود دعاة سلام حقيقيين في اسرائيل كم من بين قيادات الاسرائيليين المتظاهرين للسلام من يؤمنون بأن الحل الحقيقي للمشكل المطروح له حد اقصى مثالي، وهو الغاء وجود اسرائيل نهائيا بقرار من نفس الهيئة التي اقامتها، ولمصلحة دولة منزوعة السلاح متعددة الديانات والاتجاهات، تضم المسلمين والمسيحيين واليهود واللائكيين، تكون واحة سلام لكل الباحثين عن السلام، اما الحد الادنى العملي فهو قيام دولتين لكل منها كل السيادة على ارض آمنة، الارض والسكان؟.

وهذا هو التحدي الذي يواجه دعاة السلام من العرب، وعليهم اقناع الاسرائيليين به وليس اقناعنا نحن بأهمية السلام، وعليهم ممارسة التهديد المبطن بسوء العاقبة، واستثمار ما يقال بأن تظاهرات السلام تلك هي مجرد فولكلور تؤكد به اسرائيل ديموقراطيتها، لكن المرفوض هو ان يزايدوا على الوطنيين، بترديد الترجمة العربية للطروحات الامريكية.

وربما كان الحل في متناول اليد لو ظهر في اسرائيل رجل من نوع الجنرال دوغول، يجرؤ على تحجيم النزعات العنصرية الفاشية، ويملك الشجاعة ليقول لشعبه هناك بأن لكل اسطورة حدا تتحول بعده الى كابوس، ويقول لشارون.. انتهى الدرس يا غبي، فلا يمكن الجمع بين الارض والسلام، وهكذا يخرج بشعبه من وضعية مجتمع عسكري امني قلق، ويحقق السلام الحقيقي في المنطقة.

لكن يبدو ان في الكيان الصهيوني اكثر من أدولف هتلر، نواجههم نحن بأكثر من فيليب بيتان.. وهو ما قد يعني اننا نحن الذين قد نحتاج شارل دوغول جديدا.