سياسة بغداد.. أصدقاء الأمس.. أعداء اليوم

TT

ربما يكون التحول ـ الاخير ـ في مواقف بعض الدول العربية، وخاصة التي شاركت مع الشرعية الدولية، وساهمت في تحرير الكويت مثل سوريا ومصر له ما يبرره من ناحية المنطلق الاقتصادي، وكذلك التعاطف مع مأساة الشعب العراقي، ولكن هاتين الدولتين لا يمكن لهما ان تتعاملا مع صدام بثقة ودون محاذير!! فانعدام مصداقيته باتت سمة يعرف بها.. فمصر مثلا لا يمكن ان تنسى تلك الآلاف من النعوش التي كانت تحتوي على اجساد لعمال مصريين فقدوا الحياة لاسباب لا يعلمها الا الله!! ولا يمكن لمصر ايضا ان تتجاهل الحقوق الاقتصادية والقانونية لآلاف العمال المصريين الذين قضوا سنوات طويلة يعملون في العراق، ثم اخرجوا منه مطرودين ومجردين من ابسط حقوقهم.. وواضح ان العلاقات المصرية ـ العراقية المحفوفة بانعدام الثقة تخضع في تقاربها لمنطقة المزايدات السياسية، وهي لعبة تتقنها السياسة المصرية في ظل توجهاتها المرتكزة على الجوانب الاقتصادية.

وينطبق نفس الامر على سوريا التي عانت الكثير من جرائم صدام، اذ انه كان وراء العديد من التفجيرات والاعمال التدميرية التي قام بتنفيذها محسوبون على بغداد.

لكن استراتيجية توجه الرئيس السوري الجديد تنطلق ـ بحذر شديد ـ من المصالح الاقتصادية، وهي ايضا تستخدم التقارب مع العراق كورقة ضاغطة مع العديد من الجهات الدولية.

ومهما حاول الرئيس السوري بشار الاسد ان يفتح صفحة جديدة في علاقاته مع الآخرين، فانه لا يمكن ان ينسى ان الرئيس العراقي كان واحدا من اشد خصوم واعداء والده!! اما الدول العربية الاخرى التي سبق لها ان قامت بتأييد صدام اثناء غزوه الكويت كالاردن واليمن والسودان وتونس وموريتانيا وغيرها، فيبدو ان الامر بات واضحا بالنسبة لها، حيث تكشفت لها حقيقة ممارسة صدام وادعاءاتها القومية المزعومة، لكن هذه الدول خجلا من مواجهة الرأي العام، لاذت بالصمت، واتخذت مما يعانيه الشعب العراقي وسيلة تبرر بها مواقفها السابقة، فعرب اليوم هم ليسوا عرب ما قبل احتلال الكويت، بعد ان تكشفت لهم الحقائق.

بل ان علاقات صدام حسين مع قادة العالم اصابها التدهور، فالزعماء الذين ارتبطوا معه بعلاقات خاصة، اخذوا يعيدون النظر في مواقفهم، ويتخذون مواقف حذرة في التعامل معه..

فالزعيم الكوبي (فيدل كاسترو) ـ مثلا ـ كان يعتبر من اصدقاء صدام، لكننا نجده عندما زار المنطقة اكتفى بزيارة ايران وقطر وسوريا وغيرها، ورغم استمامة صدام، عليه بان يقوم بزيارة بغداد، فقد رفض كاسترو ولم يشر حتى لاسم صدام في كل خطاباته المسهبة التي القاها في المنطقة، رغم ان حاكم العراق كثيرا ما يفخر بان السيكار الذي لا يفارقه حتى اثناء جلسات مجلس قيادة الثورة، يرسل اليه من صديقه كاسترو.

* أصدقاء الأمس.. أعداء اليوم.. والعكس!!

* ان قاعدة افتعال المعارك والخصومات التي درج على استخدامها الخطاب السياسي العراقي، غدت لا تفرق بين الصديق والعدو، فالجميع ـ في هذا الخطاب ـ ربما يصبحون اعداء اليوم او اصدقاء الغد، دون قوانين او مقاييس محدودة وانما تخضع هذه الصداقة او تلك العداوة الى مزاج السيد الرئيس، والتي كثيرا ما تكون مبنية على حسابات خاطئة، ولنأخذ مثلا على ذلك علاقات العراق مع كل من روسيا وفرنسا والصين وهي من الاعضاء في مجلس الامن.

فروسيا كانت منذ سنوات متواطئة مع واشنطن لانها لم تقف الموقف الذي يريده صدام عندما استخدم حق الفيتو بسبب مسألة الرقابة على التدمير الشامل لاسلحة الدمار في العراق!! ولكنها بعد فترة تصبح الحليف الاول، ويتوافد اليها السياسيون العراقيون وفي مقدمتهم طارق عزيز، وتغدو هذه الدولة هي المفضلة لدى صدام!! وفي فترة سابقة اعتبرت فرنسا هي الصديق الصدوق للنظام العراقي، وان موقفها تطور بعد سنوات من حرب الخليج وتحرير الكويت لتصبح من ابرز المدافعين عن الموقف العراقي في مجلس الامن، وكان الخطاب السياسي العراقي يضع فرنسا في اول قائمة الدول الصديقة.. وما ان أيدت فرنسا مشروع نظام العقوبات الذكية، واذا بهذا الخطاب يصب جام غضبه على فرنسا، ويصفها بالمتخاذلة امام اميركا، وتوترت العلاقات بين فرنسا والعراق لدرجة ان باريس رفضت استقبال وفد عراقي كان يسعى الى ازالة التوتر بين الدولتين.

اما الصين التي كانت دولة حليفة للنظام العراقي في السنوات الماضية، فان الاعلام العراقي يقوم الآن بشن هجوم عليها وتشويه مواقفها، وتقليص التعامل الاقتصادي معها.. لماذا؟

لان الصين تحفظت على مبدأ العقوبات الذكية ولم تتخذ موقفا كما كان يرغب صدام! من هنا يظهر بجلاء ان الخطاب السياسي العراقي يعاني من ظاهرة النظرة الاحادية الجانب للقضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل هي نظرة فردية لرجل مهوس يظن انه عبقري زمانه وفيلسوف عصره وهو وحده الذي يفكر نيابة عن شعب هو من اعرق الشعوب حضارة!! مما جعل العراق معزولا عن المجتمع الدولي، وهذا كله ترك بصماته على الواقع العراقي، وهو واقع مأساوي ودام، يحاول صدام ان يغلفه بمظاهر الصمود والتحدي والصلابة الشعبية وغير ذلك من الشعارات الطنانة، التي اصبحت اقرب ما تكون الى مهزلة مضحكة مبكية تدفع ثمنها حضارة الرافدين.

* العراق من الداخل!!

* عندما نتحدث عن الواقع المؤلم الذي يعيشه شعب العراق، سنتجاوز عن تلك الملايين من العراقيين الذين لجأوا الى المنافي لاسباب سياسية واقتصادية او اجتماعية، وسنركز على واقع العراقيين الذين يقبعون داخل غياهب السجن الكبير، فاستمرار هذا النظام كلفهم وسيكلفهم الكثير من الكوارث تلو الكوارث في مستقبل السنوات القادمة، حيث اصبح ثلثا القوى الانتاجية في العراق معطلين عن العمل بسبب عدم توفر اسباب المعيشة، ناهيك من انتشار الامراض والاوبئة التي اخذت تفتك بالبنى الاجتماعية بسب عدم توفر الغذاء والدواء وانتشار المجاعات في المدن والقرى في بلد دجلة الخير.

ومما يؤسف له، بل ما يدمي القلب ان نجد في عواصم الدول المجاورة للعراق آلافا مؤلفة من العراقيين، وقد تحول البعض منهم الى امتهان وظائف لا تليق بكراماتهم رغم ان البعض منهم يحملون مؤهلات عالية، فبعضهم باعة متجولون، والبعض الآخر اخذوا يلجأون الى ابتداع اساليب لا تتناسب وطبيعة الشموخ الذي عرف به الشعب العراقي!! ولقد روى لي اللواء حسن النقيب قصة فحواها انه كعسكري تدرب على الخشونة والجلد وقوة الصبر.. ولكنه لما ذهب يوما للبحث عن خادمة فقال له مسؤول مكتب الخادمات: اتريدها سيلانية، ام هندية، او فلبينية، ام عراقية!!؟

يقول اللواء حسن النقيب عندها لم اتمالك نفسي من البكاء في مكان عام بعد ان سمعت ما سمعت.. فليت صدام يدرك هذه الحقيقة ليعلم كم من جريمة يعانيها ابناء العراق بسبب الدمار الذي اشاعه في ربوع العراق الجميل، وكم تسبب في اهدار القيم والمثل التي يعتز بها ابناء شعب العراق!! فبدلا من ان يظهر كل يوم امام جهاز التلفزيون ويسير بخطى متعالية وهو منتفخ الاوداج، ويقوم بنفخ دخان سيكاره الكوبي في وجوه محدثيه، ليته بدلا من اطلاق تلك الدعوات الكاذبة لكي ينخرط سبعة ملايين عراقي بالتطوع لانقاذ فلسطين من الصهاينة ثم يدعو لمظاهرة تأييد لشعب فلسطين! يستشعر تلك المآسي التي يعيشها ابناء العراق في الداخل والمنافي!!