لبنان الجبل ولبنان الأقضية

TT

عشر سنوات انقضت على انتهاء الحروب الاهلية والعبثية في لبنان، والوطن الصغير لا يزال يعيش حالة تشرذم داخلي توحي للناظر المتجرد بان «كانتونات» الحرب الاهلية في الثمانينات لم تكن مجرد حالة عابرة في تاريخ مجتمعه بقدر ما كانت مرآة صادقة لواقع الاتحاد الفدرالي لعشائر لبنان الطائفية.

بأي منظور كان يبدو لبنان اليوم وكأنه يعيش هدنة طويلة في حروبه الدورية لا سلاما اجتماعيا قائما على شبه اجماع على المسلمات التي تجعل من الكيانات السياسية اوطانا. وفي ما خلا استبدال القصف المدفعي بالقصف السياسي وعودة المجلس النيابي الى مقره في ساحة النجمة واضافة طائفة جديدة الى طوائف لبنان السبع عشرة «الرسمية »... يصعب القول ان امورا جذرية تغيّرت على ارض الواقع السياسي ـ اللهم الا تفاقم حالة الفقر العام ـ فالكانتونات المذهبية تتعمق جذورها، والتفرقة النفسية تتسع رقعتها، والتحالفات الموقتة والعابرة بين القيادات والتكتلات النيابية لا تزال المقاربة التقليدية للعبة السياسية في وقت تتحول فيه هذه اللعبة من معارضة للحكم الى معارضة لنظام ازدادت تهمة «عسكرته» مصداقية خلال الاسبوعين المنصرمين.

الا ان المستجد على مسيرتي الاستقطاب الجماهيري لتياري المعارضة والموالاة للنظام «المتعسكر» ان قاعدتهما تتجاوز الخلفية الطائفية التقليدية في مثل هذه الحالات الى خلفية جغرافية تبدو مثيرة للانتباه، فرغم المشاركة «الخجولة» للعاصمة بيروت في الحملة المعارضة لتوجهات النظام، يصعب على اي مراقب لتركيبة المعارضة ألا يلاحظ ان عمودها الفقري اصبح «جبل لبنان»، بنوابه وجمهوره المسيحي ـ الدرزي، وان تيار الموالاة للنظام يستند، بالمقابل، الى نواب وجمهور المحافظات اللبنانية الاخرى، وخصوصا الجنوب والبقاع حيث الاكثرية الشيعية، مما يوحي بان لبنان يتجه من جديد نحو التحول الى لبنانين: لبنان الجبل ولبنان «الاقضية الاربعة» ـ ان صح التعبير.

هل ينبي ذلك ببروز شرخ جديد في مفهوم اللبنانيين لنظام الحكم، وربما مستقبله، بين ابناء جبل لبنان ـ ببعده التاريخي لا الجغرافي فحسب ـ وابناء « الاقضية الاربعة»؟ من المبالغة الزعم بان التشرذم السياسي الحالي في لبنان يحمل في طياته طروحات متباينة للنظام السياسي قد يتناقض بعضها مع مسلمات التعايش بين الطوائف اللبنانية التي تشكل، عمليا، الضمانة الاخيرة للتعددية السياسية في لبنان. ولكن من الواقعية بمكان القول بأن لبنان يعيش اليوم مرحلة انتقالية داخلية واقليمية دقيقة الحساسية تستوجب الكثير من الحكمة والروية لتقطيعها بسلام واعادة الطمأنينة الى نفوس المتخوفين على مصير الحريات العامة فيه.

على هذا الصعيد بالذات يبرز دور العاصمة اللبنانية، وممثليها، في اعادة صياغة المفهوم المشترك للوطن الواحد، ففي ظل حالة التشرذم الراهنة تبدو بيروت مرشحة لان تلعب في لبنان دور نيويورك، سابقا، في الولايات المتحدة، اي «بوتقة الانصهار» (MELTING POT)، «للعشائر المذهبية» اللبنانية فتأخذ المبادرة في اعادة الاعتبار الى حكم «المؤسسة» القائم على الفصل التام والواضح بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية وتتحمل مسؤوليتها في الاشراف على كل الاجهزة غير المدنية في الدولة وتحول دون طغىان سلطة على اخرى عبرالاستقواء «بالامر الواقع». لبنان اليوم بحاجة ماسة الى اعادة المصداقية لمؤسساته الدستورية. واذا كانت هذه المصداقية حجر الاساس في نظامه شبه الديمقراطي فهي، اضافة الى ذلك، الرسالة المطلوبة لترغيب المغتربين اللبنانيين في العودة الى الوطن والضمانة الضرورية لاجتذاب الاستثمارات الاجنبية التي يحتاجها اقتصاد لبنان اليوم اكثر من اي وقت مضى.