صور من تطبيقات نقد الذات المسلمة (تمحيص السنة نموذجا)

TT

نستأنف الحديث عن(نقد الذات) في منهج الإسلام، وفي حضارة المسلمين وتراثهم.. ولقد اختص مقال الأسبوع قبل الماضي بـ(منهج نقد الذات في القرآن والسنة).. أما مقال هذا الأسبوع فقد أفرد لـ(نماذج من تطبيقات نقد الذات في حياة المسلمين)، ولا سيما الحياة العلمية.

(ميراث النبوة) موقر مهيب رفيع المقام مصون الجناب، ومع هذا التوقير والمهابة والرفعة والصون، فإن العقلية المسلمة نظرت إلى هذا الميراث بـ(عين ناقدة) حازمة: لا مكان فيها للعاطفة والاسترخاء والخوف والوسوسة والجفول والإغضاء.. والباعث على هذه النظرة الناقدة الفاحصة هو: تعظيم ميراث النبوة نفسه والجهاد لأجل صونه وحمايته من أن يختلط به ما هو مقحم فيه، أو مدسوس عليه: لهذا السبب أو ذاك.

ومن مجموع مباحث النظرات الناقدة المغربلة الموثقة تكوّن(منهج علمي) قوامه: النقد المنصوب الميزان أبدا، البيّن الآليات الفنية: المفردة والمركبة، وهو منهج لا نظير له - البتة - في توثيق تراث الأمم: الديني وغير الديني.

وهذا المنهج الفريد: متعدد المجالات والحقول التي تلتقي كلها في توثيق ما يستحق التوثيق، ، واطراح وتوهين كل ما ينبغي اطراحه وتوهينه - بعلم راجح وأمانة فائقة-.. ومن هذه الحقول:

1- (علم الإسناد)، أي العلم بسلسلة رجال الإسناد بالتوثيق من ترجمة كل منهم: قوة وضعفا.. ثقة وعدم ثقة.. جرحا وتعديلا.

وهذا علم تصعد نشأته إلى عصر الخلافة الراشدة. فقد سنّ أبوبكر رضي الله عنه سنة التثبت من الراوي، إذ لم يقبل من أحد الصحابة حديثا يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى يشهد معه غيره بأنه سمعه - كذلك - من النبي.. ومشى على المنهج نفسه عمر بن الخطاب- رضي الله عنه - إذ رد حديث أبي موسى الأشعري حتى أتاه أبو موسى بمن شهد معه على صحة الحديث.. ولزم الفرز نفسه علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - حيث كان يستحلف الراوي حتى يستوثق من صدقه وأمانته، وذلك لأن هؤلاء الخلفاء العظام كانوا على علم بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:«من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار».. وهذا الحديث من دلائل، ومن نور النبوة الذي امتد بسناه بعد انتقال النبي إلى الرفيق الأعلى، وهو سنا أضاء الطريق لعلماء السنة الذين قضوا أعمارهم الشريفة في حفظها وتوثيقها وتنقيتها: بنقد الأكاذيب والأباطيل والدس والوضع والتدليس.. وفي أهمية الإسناد يقول الشافعي:«مثل من يطلب الحديث بلا إسناد كمثل حاطب ليل ربما احتطب في حطبه أفعى».. ومن التطبيقات(الإسنادية) على أحاديث نسبت للنبي، قولهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إنما هلكت بنو إسرائيل حين حدّث فيهم المولَّدون أبناء سبايا الأمم فوضعوا الرأي فضلوا».. ففي سند هذا الحديث رواة منهم الضعيف: كابن صالح.. ومنهم المتهم بالكذب: كالكلبي.. (ثم في الحديث نزوع عنصري يحط من قدر المولّدين، فليس هذا الحط من معايير الإسلام قط، وإلا فإن جمهرة العلماء الكبار الذين خدموا السنة هم من غير العرب).

ومن هذه التطبيقات: نقد ما ورد في بعض كتب الفقه من أحاديث ضعيفة أو موضوعة.. يقول ابن تيمية: «ومنها قولهم: (نهى النبي عن بيع وشرط) فإن هذا الحديث باطل، ليس في شئ من كتب المسلمين، وإنما يروى حكاية منقطعة.. ومنها قولهم: (نهى عن قغيز وطحين).. وهذا أيضا باطل».. ثم يقول في موضع آخر:«قولهم قال النبي: (لو كانت الدنيا دما عبيطا كان قوت المؤمن منها حلالا). هذا ليس من كلام النبي، ولا يعرف له إسناد.. ومما يروونه: أن عمر بن الخطاب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تكلم مع أبي بكر كنت بينهما كالزنجي الذي لا يفهم). وهذا كذب ظاهر لم ينقله أحد من أهل العلم بالحديث، ولم يروه إلا جاهل أو ملحد.. ومما يروونه عنه أيضا (الشيخ في قومه كالنبي في أمته). وهذا ليس من كلام النبي».. انتهى كلام ابن تيمية.. وعن الحديث الأخير - المفترى على النبي - يقول الإمام النووي (موضوع لا أصل له).

وفي الإسناد يجهر العلماء الثقات بـ(الجرح) في الرواة المجروحين: جهرا متحررا متطهرا من كل مجاملة ومداهنة وخفوت، ومن كل عدول عن واجب (التسمية) و(التعيين).. مثلا: من الرواة المجروحين (غزوان بن يوسف المازني العامري البصري). ولقد تناوشته بالاسم سهام النقدة الأيقاظ من حراس السنة، فقال البخاري: سكتوا عنه.. وقال أبو حاتم: متروك الحديث.. وقال ابن حبان: منكر الحديث.

2- ومن هذه العلوم(علم علل الحديث).. ومن تعريفات العلة: وجود سبب خفي قادح في صحة الحديث، مثال ذلك أن يكون السند ظاهره الصحة، ولكن فيه من لا يعرف بالسماع عمن روى عنه، أو أن يكون الراوي عن شخص أدركه وسمع عنه، ولكن لم يسمع منه أحاديث معينة، فإذا رواه عنه بلا واسطة فالعلة أنه لم يسمعها منه. وفي هذا الفن الأصيل مراجع مترعة بالنقد القوي السافر - غاية السفور -. من هذه المراجع (العلل ومعرفة الرجال) لأحمد بن حنبل. و(العلل المنقولة عن يحيى بن معين). و(العلل) لابن المدين. و(كتاب العلل) للبخاري.. و(كتاب العلل) لمسلم بن حجاج.

3- علم (الأحاديث الضعيفة والموضوعة).

بتطبيق منهج الإسناد والتعليل - مثلا - ظهر علم نقدي جديد موسع وهو: العلم بالأحاديث الضعيفة والموضوعة واستقرائها وإحصائها - قدر الإمكان - وكشفها للأمة المسلمة لكي تأخذ دينها من صحيح السنة، ولكي تحرر معرفتها الدينية وتطهرها تطهيرا من الأحاديث التي نسبت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يقلها.. ومن مراجع هذا الفن النقدي الرائد(الضعفاء الصغير) للبخاري. و(الضعفاء الكبير) للعقيلي. و(الكامل في ضعفاء الرجال) لابن عدي. و(الضعفاء والمتروكون) لكل من النسائي والدارقطني. و(ضعيف الجامع الصغير). و(سلسلة الأحاديث الضعيفة) لناصر الدين الألباني. و(الموضوعات) لابن الجوزي. و(الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة) للشوكاني.

هذه نماذج من(النقد العلمي) الصارم لميراث النبوة: ابتغاء تنقيته مما علق به من دس وتدليس ووضع وافتراء.

وميراث النبوة مصون الجانب، موقر المقام - بلا ريب - كما تقدم، ومع ذلك تناولته عين التوثيق العلمي بالنقد - المنهجي والتطبيقي -.. وهذا من البراهين العلمية التي تزيد الإيمان بالسنة النبوية. فهذا المنهج العلمي الدقيق والحاسم في تصفية الحديث النبوي من الشوائب - أية شوائب -: يسقط كل مقولة تحاول إثارة الريب حول صحيح السنة.. وبسقوط هذه المقولات والإرجافات: يربو الإيمان بالسنة، ويسطع نوره في العقل والضمير سطوعا ينقل المسلم من موقع (الاعتذار) إلى موقع (الاعتزاز).

وإذا كان النقد العلمي الحق الصدوق النزيه قد تعامل بهذا المنهج الصريح مع ميراث النبوة ذته، فإن ما دون ميراث النبوة خضع لهذا النقد: بداهة.

ومن ذلك: نقد الأخطاء في تفاسير القرآن.. ثمة تفاسير للقرآن الكريم، احتشت بـ(الاسرائيليات) الخرافية المذمومة التي وردت في قصص الأنبياء، ونشأة الكون وحركته إلخ.. ولقد تناول علماء التفسير هذه الاسرائيليات وخرافاتها وأوهامها بالنقد الجرئ المبصر الأمين.. ومن هؤلاء العلماء: ابن كثير.. وأبوبكر بن العربي.. ولقد قال الأخير: «فأعرض عن سطورها بصرك (أي الاسرائيليات)، وأصم عن سماعها أذنيك، فإنها لا تعطي فكرك إلا خيالا، ولا تزيد فؤادك إلا خبالا».

والحق أن تاريخنا العلمي كله يمكن وصفه بأنه(إنشاء واستدراك ونقد):

أ- فقد استدرك الليث بن سعد على الإمام مالك بن أنس، وقد عاشا في عصر واحد.

ب- واستدرك ابن حزم وانتقد جمهرة من العلماء الأعلام، ولولا عبارته الجارحة، لأصبح نقده واستدراكه منهجا كاملا متقبلا في هذا الفن.

ج- واستدرك ابن القيم على شيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي - على حبه له -!!.. فقد ألف ابن القيم كتابه (مدارك السالكين) لشرح كتاب (منازل السائرين) للهروي، والتنويه به، ومع ذلك فقد أعمل ابن القيم معيار النقد في بعض ما قاله الهروي وأخطأ فيه.. يقول ابن القيم:«ليته لم يستشهد بهذه الآية في هذا الباب، فإن الاستشهاد بها على مقصوده أبعد شاهد عليه، وأبطله شهادة، وليته اختار لهذا الباب اسما أحسن منه موقعا، شيخ الإسلام حبيبنا، ولكن الحق أحب إلينا منه».. ولا نحسب أن الهروي يضيق بمثل هذا النقد. إذ كان هو نفسه يمارس النقد ولا يساوم عليه.

على أنه لا ينبغي أن يستدرك على العلماء إلا عالم ذي علم راجح، وإخلاص مكين، وأسلوب رفيع.. فهذه أسس معتبرة للنقد المعتبر.