اختلاط المواسير والفكر الثوري

TT

في بداية أربعينات القرن الماضي، وهو الوقت الذي بدأت أتبين فيه ملامح الدنيا، كانت مشاكل مصر مختلفة تماما عما هي عليه الآن. كانت بالتحديد هي، الفقر والجهل والمرض. لذلك كان من الطبيعي وقد ازداد المصريون وعيا بذلك، أن تنصرف جهودهم للقضاء على هذه الأمراض أو، في القليل، على التخفيف من حدتها.

وبغض النظر عن مدى نجاحهم في ذلك من عدمه، غير أنه من المؤكد أن وعيهم بها لم يكن محل جدل أو خلاف. ثم جاءت ثورة يوليو 1952 التي تخفّت في البداية في هيئة انقلاب عسكري أيده الشعب فتحول إلى ثورة، حسب توصيف المرحوم فؤاد سراج الدين لها (أحد أقطاب حزب الوفد القديم ورئيس حزب الوفد الجديد). أطاحت الثورة بالملك، وبالأحزاب، وبالإقطاع، وبأصحاب الأملاك، وملاك الأراضي، وأصحاب رؤوس الأموال، وأصحاب المصانع، أما الأمر الأكثر أهمية فهو أنها قضت في أيام على الفقر والجهل والمرض، أو للدقة، قضت نهائيا على الوعي بخطورة هذه الأمراض، بعد أن أكسبت الناس وعيا جديدا طازجا بقضايا أعظم وأكثر أهمية، الاستعمار، وذيول الاستعمار، وأذناب الاستعمار، والإقطاع، وفلول الإقطاع، ورأس المال المستغل، والإمبريالية العالمية الشريرة التي تفتك بدول العالم الثالث، بالإضافة لعدد من الأعداء لا وزن لهم مثل المشككين والمبلبلين والذين لا تقوى أيديهم المرتعشة على البناء.

وكان لا بد لهذه القضايا جميعا من قضية مركزية لمصر وللعرب جميعا وهي قضية فلسطين، وفي وجود قضية مركزية عظمى، يصبح من السخف الانشغال بقضايا تافهة مثل الفقر، والجهل، والمرض، هكذا بدأ دينامو التبرير المصاحب عادة للقضايا العظمى في الدوران، أنت فقير لأن الإمبريالية العالمية تحرص على بقائك فقيرا، ولأن الإقطاعيين أكلوك لحما وتركوك عظما، وأنت جاهل لأن الغرب يحرص على بقائك جاهلا، ونتيجة لجهلك وفقرك لا بد أن تصاب بكل أنواع الأمراض، ولكن لا بأس.. ستتخلص من كل ذلك عندما تدور حول المركز، مركز القضية المركزية. هكذا بدأ التفكير الثوري يتبلور ويكتسب ملامحه وآلياته، ومن أهمها «الذكاء الإعلامي السياسي» الذي تقنع به الفقير أنه لم يعد فقيرا بعد أن امتلأت جيوبه بالعزة والكرامة، وأن تطمئن الجاهل بأن جهله هو أحد تجليات التفكير الثوري. أما المريض فهو سيشفى حتما عندما تتوفر لديه إرادة الشفاء.

هنا نأتي لأخطر عنصر في التفكير الثوري، الثنائية المدمرة للجهد البشري، أن تفعل الشيء ونقيضه في وقت واحد، أن تصنع الحرب والسلام، أن تشتم أميركا، وأن تحصل منها مجانا، في الوقت نفسه، على الخبز والجبن واللبن المجفف والدقيق لأطفال مدارسك، أن تصنع الحرية وأن تصنع الاستبداد، لذلك كان من الطبيعي أن تمد خطوط مواسير المجاري ـ الصرف الصحي تأدبا ـ تحت الأرض، وأن تمد بالقرب منها، وبموازاتها، مواسير مياه الشرب لكي تضمن أن تختلطا عند أول خطأ أو حادثة. وفي وجود قضية مركزية عظمى وهي الحرب والسلام، من المستحيل أن تجد وقتا أو جهدا أو مالا من أجل صيانة هذه الخطوط.

يا لها من أخبار تعسة وكئيبة تلك التي نقرؤها عن إصابة مئات المصريين بمرض التيفويد نتيجة لتلوث مياه الشرب. هذه ليست هي المرة الأولى التي تحدث فيها هذه الحادثة، الجديد فقط هو إصابة الناس بالتيفويد، غير أنه من المؤكد أنك لن تجد مسؤولا تحاسبه، فهي في واقع الأمر ليست حادثة، بل هي تجسيد لطريقة تفكير وأسلوب حياة، أن نحيا بغير اهتمام بعمليات الصيانة، أما في القضايا العظمى فمن المستحيل أن نرتكب خطأ من هذا النوع، فضلا عن أنها بطبيعة الحال ليست في حاجة إلى صيانة.

عندك مثلا قضية كبرى مثل «بالروح والدم نفديك يا أى حاجة» هل تعتقد أنها في حاجة إلى صيانة؟ احتياجات البشر اليومية فقط هي التي في حاجة إلى الاهتمام واليقظة والحذر وإجراء عمليات الصيانة الدورية. هنا نأتي لعالم الحرفة الذي داست عليه القضايا العظمى، ستجد طبيبا انصرف كل اهتمامه إلى المطالبة بتطبيق الشريعة، وفي الوقت نفسه سترى أحد رجال علوم الدين مهتما بعلاج الناس على شاشات الفضائيات. ستجد مهندسا تقيا ورعا غير أن لا وقت لديه أو رغبة للاهتمام بمواسير الشرب.

لا شيء أكثر قداسة على الأرض من الحياة اليومية للبشر، وهي في حاجة إلى صيانة دائمة، ومن أجل ذلك وصل الإنسان إلى ذلك التنظيم الذي يسمونه النقابات، ووظيفتها ترقية المهنة وحماية أصحابها من المستهلك، وحماية المستهلك من أصحاب المهنة. غير أنه في مناخ القضايا العظمى الثورية ـ العقيدية والسياسية ـ تحولت هذه النقابات إلى مفرخة زعماء عاجزين عن حماية مهنهم والارتقاء بها، هذه بديهية وأمر طبيعي، وعلى كل النقابات في مصر أن تعود إلى طبيعتها، فقد مضى ذلك الوقت الذي كانت فيه الحكومات تستخدمها في معاركها الداخلية والخارجية. على النقابات المهنية الرائدة في مصر أن تصدر قرارا بالتطبيع مع مصر والمصريين، إلا إذا كانوا ضد كل أنواع التطبيع.