الفوضى كرهان سياسي

TT

موت مجاني في العراق، سيارات مفخخة تحصد أرواح المزيد من الأبرياء. لا جديد في ذلك لأرض خالطت الدماء في كل صفحة من تاريخها، ولشعب صار عليه أن يتوقع الموت زائرا محتملا في أي لحظة لأنه كان وما زال ملاحَقا بلعنة التاريخ والجغرافية والآيديولوجيا. القتل في العراق هو السبيل الأسهل عندما يكون السبيل الآخر هو الحياة، فأكثر ما يمكن أن يثير الرعب هو الشعور بأن الموت المجاني شيء عادي، أنه بات خليطا من القدر والحظ العاثر، فذلك ما يدفع القتلة إلى مزيد من القتل والمتخاصمين إلى اختيار القتل وسيلة لإدارة الصراع. ثقافة القتل في العراق صارت منذ زمن طويل مستمكنة اجتماعيا وسياسيا، فالعنف الذي كابده المجتمع ـ سواء هو ذلك الذي صنعته الحكومات أم ذلك الذي أتى من خصومها ـ أسهم في قولبة المجتمع وصار بالتدريج سلوكا مقبولا.

نعم، إن القتل المجاني صار سلاحا سياسيا وإحدى آليات إدارة الصراع، فالعنف في العادة يخلق شروخا اجتماعية تتحول بمرور الوقت إلى مصادر لإدامته، وتلك كانت استراتيجية القاعدة ومَن وراءها منذ البداية، كما أن الكراهية المتولدة عن رغبة الانتقام تنتج المزيد من العنف الذي تحتاجه بعض النخب السياسية لكسب مشروعية من محيطها الاجتماعي كحامية له بوجه «إجرام الآخر»، وفي الحقيقة أن هذا الصراع يخدم في الأساس المتطرفين في كل فئة لأن وجودهم له مصدر واحد هو الخوف.

لذلك يصعب الفصل بين تصاعد العمليات التفجيرية مؤخرا ورغبة أطراف داخلية وخارجية بإعادة إنتاج التخندق الطائفي القديم، فهذا النوع من العنف قد يعيد تدريجيا البنية السايكولوجية إلى وضعها السابق القائم على خطاب الخوف. من هنا لا يبدو هذا العنف بريئا من حيث توقيته، بل إنه كان وسيظل متوقعا مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية القادمة حيث تتقاطع مصالح العديد من القوى باتجاه تصعيد خيار العنف.

الخطر الأكبر يكمن في تلاقي مصالح القوى ذات الهدف الاستراتيجي القائم على تفكيك النظام السياسي واستبدال آليات الصراع المسلح ومنطق فرض الأمر الواقع بالآليات الديمقراطية على علتها، وبين القوى التي تريد استحصال مكاسب انتخابية عبر انتكاس الوضع الأمني ومنع رئيس الحكومة من استثمار الورقة الأمنية كمنجز شخصي ينصبّ في خدمته انتخابيا. بالطبع يظل تنظيم القاعدة الذي لا يمكن بأي حال من الأحوال النظر إليه كطرف سياسي أو اجتماعي ذي مصداقية متهما رئيسيا عن هذا النمط من الإجرام بناء على سوابقه وتركيبته الأيديولوجية، إلا أن هذا الاتهام لا ينفي تورط جهات أخرى وإن تشجيعا، فالقاعدة صارت جسما فضفاضا غير واضح المعالم يمكن اختراقه من أجهزة المخابرات وتوجيهه بطريقة تخدم أجندات غير معلنة، كما أن انحسار عدد ودور المقاتلين الأجانب وضلوع العراقيين بمعظم أعمال العنف يعكس حقيقة وجود أجندة سياسية حتى لو كانت غائبة عن وعي المنفذ، أيضا لا يمكن إغفال بعض «الفصائل المسلحة»، التي هي بحاجة إلى تسخين الوضع دوما لإثبات أنه قابل للارتداد إلى حافات الانهيار، لكي تكون رقما صعبا لا بد أن يؤخذ بالاعتبار. فمزيد العنف يعني مزيدا من تضخيم قوتها وقدرتها التفاوضية، فيصبح حجم الصفقة المنشودة متناسبا مع حجم الدمار الذي تحدثه أو ذاك الذي تحول دون وقوعه، إنها بأسى معادلة تُبنى أيضا على مزيد من موت الأبرياء.

فلم يعد جديدا القول إن الصراع في العراق بات بامتياز خليطا من صراع السلطة بين الجماعات الإثنية والطائفية وصراع القوى الخارجية، وحيث يسعى الجميع إلى استثمار هشاشة الدولة وعدم استقرار بنيتها بمواصلة الصراع أملا في تشكيل الوضع العراقي خدمة لمصالحهم، أو في الأقل منع استقرار الوضع العراقي وظهور العراق رقما سياسيا إقليميا قد يخدم طرفا على حساب آخر. وإن إدامة الفوضى في العراق هي استراتيجية تبناها البعض معتقدا أنها البديل عن نظام «غير مرغوب به»، كما أن إبقاء الحكومة في مربع الأمن هدفه إنهاكها وشَغلها عن ملفات أخرى، في الوقت الذي يتأزم فيه الشارع بسبب المخاطر الأمنية وغياب الخدمات مولدا بيئة ساخطة عليها.

هذا الصراع الوجودي يتقاطع مع صراع آخر أطرافه قوى سياسية بعضها مندرج في النظام الجديد لكنها لم تصل بعدُ إلى نضج التمييز بين الاستراتيجي والتكتيكي وإلى قبول الآليات الديمقراطية كناظم وحيد لصراعاتها. وهذه القوى تسعى إلى محاربة إمكانية ظهور تحالف انتخابي قد يقوده المالكي يعبر الخطوط الطائفية عبر حرمان الأخير من التعكز على المنجز الأمني، وبالتالي إضعاف شعبيته كرصيد أساسي لهذا التحالف أو عبر دفعه تحت ضغط العنف إلى التراجع عن الخيار الوطني، أو عبر منح هذا الخيار لطرف آخر.

من هنا تبدو المراهنة على الانتخابات القادمة ذات بعد استراتيجي داخلي وأيضا خارجي، فهي مراهنة على مستقبل العراق الذي يسعى الجميع إلى أن يكون فاعلا في توجيهه، وجسامة الصراع تعكس استعداد البعض إلى عدم ادخار أي وسيلة للتأثير فيه بما في ذلك الفتك بأجساد الأبرياء في الأسواق وفي الأماكن العامة. وحتى لو سلمنا بحسن النوايا فإن الاختلافات التي تزدهر بها ساحتنا وتتفاقم في أوان الاستحقاقات السياسية لا شك لها دور في تفتيت الجهد والذي يساعد الإرهاب والعنف على أن يشقا بيسر طريقهما.

هذا الخليط من الصراع على النظام وهو صراع استراتيجي، والصراع داخل النظام وهو صراع تكتيكي يوفر لحظة ملائمة لانفلات العنف أو البحث عن رصيد سياسي عبر جثث الأبرياء، إنه سلوك يعبّر عن الدرك الذي يمكن أن يصله المتورطون، إلا أنه يظل خيارا قائما ما بقي هناك مصفقون أو مبررون أو صامتون.