مشكلات العرب ومعالجاتها الإقليمية الخاطئة

TT

تكاد نظرة واحدة على الخارطة العربية أن تصيب الإنسان بالإحباط. صحيح أنها جغرافيا شاسعة، ولكن ما أن يكاد المرء يتنقل داخل هذه الجغرافيا، راجلا، أو ممتطيا راحلة، أو على متن طائرة، حتى يصل ببطء أو بسرعة، إلى ميدان حرب متوتر، حتى ليمكن القول إن الإنسان يتنقل في المنطقة العربية من ميدان حرب إلى ميدان حرب أخرى، وما بينهما ليس إلا مدنا وقرى تتضرر من تلك الحروب وتخاف منها. وثمة قادة وزعماء ورؤساء دول، يراقبون كل هذا حولهم، ولكنهم بالكاد يفعلون شيئا لإنهاء تلك الحروب. ربما يعتبرون الحروب قدرا لا بد منه. كيف لا وهي جزء من التاريخ، التاريخ العربي، والتاريخ الآخر للشعوب كلها.

لا غرابة إذن أن تنشب الحروب ما دامت أمرا ملازما لتاريخ الشعوب، ولكن الغرابة كل الغرابة، أن لا يبادر أحد لتجاوزها، أو للتخفيف منها، أو لإيقافها. فإذا بها حرب تبدأ عند الجيران، ثم تنتقل إلى المنازل الأقرب والأقرب. تكون حربا محلية، فتصبح حربا إقليمية، ويتدخل الأجنبي الموجود دائما لتصبح حربا دولية، وهنا يجد البعض المبررات لعدم الفعل، وبحجة القول بأن الوضع أصبح أكبر من طاقاتنا.

هل نبدأ من فلسطين؟ أم أن البعض أصبح لا يطيق السماع بها؟

لقد نشبت حرب عربية وفشلت. ونشبت ثورة فلسطينية وفشلت. وأنجزت اتفاقيات سلام وفشلت، وبدلا من الدولة على 22% من الأرض الفلسطينية (نظريا)، أصبحنا أمام خطر ضياع القدس، وأمام خطر تهجير فلسطيني جديد يطال من بقي من عرب فلسطين فوق أرضهم، وعددهم يقارب الآن مليونا ونصف المليون نسمة، ويسمى الخطر الذي يتهددهم «يهودية دولة إسرائيل». إنها يهودية منذ أن نشأت، ولكنهم يريدونها الآن يهودية بقانون، ويهودية باعتراف رسمي يقدمه الفلسطيني المفاوض من دون أمل، حتى يتسنى لليهودي أن يطرد الفلسطيني.

وعندما ينعقد مؤتمر لحركة فتح في أراضي الحكم الذاتي، وينتخب قيادة جديدة «ديمقراطية»، تصبح كلمة «ديمقراطية» مرادفة للقدرة على التفريط. ويفترض بمثل هذا التفريط أن يقود إلى الغضب، إلى غضب فلسطيني، وإلى غضب عربي. ولكن شيئا من ذلك لا يحدث، وبهذا يصبح العرب شركاء مع الفلسطينيين في الضياع والتضييع.

ثمة فلسطينيون يؤمنون بأن لا حل لقضية فلسطين إلا من خلال العرب وبواسطة العرب وبدعم العرب. وثمة عرب باتوا يقولون للفلسطينيين إنكم واهمون.. ولن ينصلح حال هذه الأمة إلا حين يتلاشى كل خلاف بين الفلسطينيين والعرب، حول هذه القضية بالذات.

هل ننتقل من فلسطين إلى السودان؟ حيث تدور رحى الحرب في منطقة دارفور؟ أريد أن أروي قصتين شخصيتين لهما علاقة بالموضوع.

تتعلق القصة الأولى بالسيد الصادق المهدي، زعيم حزب الأمة، وكبير طائفة الأنصار، وقد عرفته يوم أصبح رئيسا للوزراء للمرة الأولى، وكان يوم ذاك في الثلاثين من عمره، وزرت معه جنوب السودان للمرة الأولى حتى وصلت إلى مدينة ملكال عند حدود أوغندا. وهو ابن بيت عريق في الزعامة، ومنحه الله بالإضافة إلى ذلك كل مكونات الزعامة الأخرى: المهابة، والثقافة، والمال، وطلاقة اللسان. وهو مع حزبه وطائفته وجده الذي حارب الإنجليز وهزمهم، أبناء منطقة غرب السودان، وغرب السودان هو كردفان ودارفور. وكان حريا بالصادق المهدي حين نشبت الحرب في تلك المنطقة أن يكون معنيا بها أكثر من الناس جميعا، ولكن فصول الحرب كانت تتوالى، ومن دون أن نسمع تعليقا أو تصريحا للصادق المهدي حول ما يجري هناك. ألا يثير ذلك الدهشة؟ أخيرا فقط، بدأنا نسمع ونقرأ تعليقات للصادق المهدي حول الأحداث في دارفور. لماذا؟ أليس من أبسط واجبات الزعيم أن يدافع عن المنطقة التي أنجبته وصنعته؟

القصة الثانية ميدانها الكويت، وفي الأسبوع الذي تسلم فيه راحلنا الكبير أحمد بهاء الدين رئاسة تحرير مجلة «العربي». كنت أثناء ذلك في زيارة للكويت، وذهبت لزيارة أستاذنا في منزله، وكان يومها مستشارا للرئيس أنور السادات، وكان السودان قد شهد انقلابا عسكريا لم ترتح له مصر. قال لي أحمد بهاء الدين: لقد قدمت استشارة لفخامة الرئيس حول السودان، وقلت له أن لا بد من موقف مصري علني يقول إن مصر لا يمكن أن تقبل أي تغيير في السودان إلا بعد استشارتها. إن السودان هو الجزء الأساسي من أمن مصر، وكل ما يحصل فيه يمس أمن مصر. وأنا أرى أن يكون هذا الموقف علنيا حتى تصل الرسالة إلى الجميع. وقد مرت الأيام، ووقعت حرب دارفور، بفظائعها، واحتراب قبائلها، وتدخل الجيران فيها، حتى أصبح لقب الجيران هذا يطلق على كل طامح بقليل من نفط السودان. وقد مرت الأيام، وجاءت قوات مسلحة للحفاظ على الأمن في دارفور، قوات أفريقية، وقوات دولية، وقوات أمم متحدة، وحدث كل هذا ومصر صامتة تراقب. وأخيرا فقط، بدأت مصر تتحرك، وبدأت تتدخل دفاعا عن أمنها.

هل ننتقل من السودان إلى اليمن؟ أرض التاريخ والحضارات؟ أرض بلقيس وسبأ وسد مأرب، والفأرة التي قرضت الحجر حتى انهار السد؟

تندلع في اليمن الآن حرب عجيبة. مرة يسمونها «الحرب السادسة»، فهل سمعتم بالحروب الخمسة التي سبقتها؟ ومرة يسمونها «حرب الحوثيين»، فهل سيجيبك أي عربي عارفا لو سألته من هم الحوثيون؟ ومع ذلك فإن الحوثيين يخوضون حربا ضد حكومتهم في صنعاء، وضد جيشهم بما لهم فيه من أشقاء وإخوة وأبناء عم. وهم يبررون حربهم أحيانا بالحديث عن الظلم، وأحيانا بالحديث عن الضغط الطائفي، وأحيانا بإعلان السعي صراحة لاستلام السلطة، أو العودة إلى عصر الأئمة الذين حكموا اليمن قبل قيام النظام الجمهوري. مع أن تلك الحرب تندلع داخل اليمن، إلا أن أخطارها تهدد السعودية، وتهدد جيران اليمن في سلطنة عمان، وربما تهدد أيضا إمارات الخليج كلها. أما إذا نظرنا إلى الأمور من جانبها الطائفي فإن ما يفعله الحوثيون يهدد بمشكلات طائفية في بلدان عربية أخرى.

وبسبب اتساع رقعة المخاطر، فإن المنطق يقضي بالقول، بأن من مصلحة قوى عربية عديدة، أن تتفاعل لتواجه هذه الأزمة، ولكننا نلحظ أحيانا أن حكومة اليمن وحدها هي من يتصدى للمشكلة، وبخاصة حين تقوم إلى جانبها مشكلة أخرى في «الشطر الجنوبي من اليمن»، حيث يطالب بعض الناس هناك بالانفصال، بعد أن تمت الوحدة.

لا يمكن بالطبع إعفاء الحكم في صنعاء، من أخطاء وقعت ضد بعض الطوائف في الشطر الشمالي، أو من مظالم وقعت ضد بعض الكوادر في الشطر الجنوبي، ولكن القفز من الأخطاء والمظالم إلى التمرد المسلح وإلى رفع شعار الانفصال أمر خطير لا يقبله أي عاقل.

ولكن لماذا نروي كل هذا؟

نروي كل هذا لنقول إننا نواجه مشكلات في قوس جغرافي كبير يمتد من فلسطين إلى مصر إلى السودان إلى اليمن. ويمكن لنا أن نروي كيف أن قوس المشكلات هذا يمتد إلى العراق وإلى الجزائر وإلى المغرب، حيث مشكلة الصحراء ومستقبلها تشعل حربا تجاوزت حتى الآن ثلاثين عاما.. وتعالج هذه المشكلات محليا وقطريا، بينما هي خطر قومي يتهدد الجميع، ولكن نادرا ما يرتفع صوت ينادي بضرورة معالجة قومية لهذه المشكلات كلها.

اسألوا أي استراتيجي في العالم: هل يمكن معالجة مشكلات اليمن من دون تفاهم مع السعودية؟ الجواب لا.

اسألوا: هل يمكن معالجة شؤون السودان من دون تفاهم مع مصر؟ الجواب لا.

اسألوا: هل يمكن معالجة القضية الفلسطينية من دون جهد قومي عربي يقف في وجه إسرائيل؟ الجواب لا.

والغريب أن الكل يعرف السؤال، والكل يعرف الجواب، بينما يتم ترتيب كل شيء على أساس قطري. بينما الرؤية الاستراتيجية القومية هي الأساس لحماية كل ما هو قطري.

اسألوا الفرنسي كيف يسعى للتحالف مع ألمانيا. واسألوا البريطاني كيف يسعى للتحالف مع أميركا. واسألوا الروسي كيف يدقق في كل ما يجري قريبا منه في جورجيا.

إنها حقائق الحياة.. وقد شغلنا عنها كل ما هو إقليمي.