ثقافة الانتحار والموت المجاني!

TT

أستعيد زمن صباي وباكورة شبابي، وأسأل نفسي: هل كنت عرضة في أي مرحلة من مراحل حياتي أن يغرر بي تيار متشدد لكي أحمل السلاح، وأقتل خلق الله، كما يفعل أتباع المنظمات المسلحة في بعض المناطق؟ وفي كل مرة يتملكني اليقين بأنني لم أكن قط قابلا للإيحاء أو الاستهواء بمثل تلك الأفكار، وكان دائما للإنسان حرمته في دواخلي، ولذا يدهشني انسياق بعض الشباب خلف منظمات العنف، وتبني أفكار ذات سمة انتحارية لأنها تفتقر إلى أي ضوء في نهاية النفق، وأكاد أجزم أن الخلل بيني ـ ومعظم جيلي ـ وبين بعض أبناء هذا الجيل خلل تربوي لا بد أن نتنبه إليه في بيوتنا، ومدارسنا، ومجتمعاتنا قبل أن تتسع دوائره، وتزداد خطورته، ويتعقد إصلاحه.

والمتابع لجل الحركات المسلحة يكتشف أنها ذات ثقافة انتحارية، فهي تعرف مسبقاً أنها تفتقر إلى أسباب القوة على مستوى ما تطرحه من أفكار، أو تحمله من سلاح، أو تمتلكه من أعوان، ومع ذلك تسعى جاهدة إلى التغرير بمن تستطيع لجره إلى ساحة الانتحار، ومن أحدث هذه الحركات المجموعة السلفية الجهادية في غزة، التي أطلقت على نفسها اسم «جند أنصار الله»، ولجأ زعيمها الدكتور عبد اللطيف موسى، أو أبو النور المقدسي في خطبة الجمعة الماضية إلى إعلان قيام إمارة فلسطين الإسلامية في قطاع غزة قبل أن «تطربق» حماس البيت على رأسه في موت مجاني ذهب ضحيته أكثر من 88 جريحا وقتيلا، وهي أشبه بـ«فتح الإسلام» التي حشر زعيمها شاكر العبسي مجموعة كبيرة من الشباب في نهر البارد في مواجهة بائسة ويائسة أمام الجيش اللبناني بزعم تحرير فلسطين.

وتشكل طالبان باكستان المثال الأكثر وضوحا للثقافة الانتحارية، فزعيمها بيت الله محسود الذي قتل في إحدى الغارات الأميركية قبل أيام، كان منذ البدء مشروعا انتحاريا لا أكثر، تحدى دولته والعالم بفكر ضيق يسير عكس اتجاه الزمن، والناس، وطبائع الأمور، فكانت أولوياته شديدة الارتباك والتخلف والانغلاق بصورة لم تتسع حتى لقبول تعليم الفتيات الصغيرات في مناطق نفوذه، فهدد ـ بدم بارد ـ بتفجير المدارس وقتل الصغيرات إن تجرأن على الذهاب إلى أماكن التعلم، ومثل هذه العقلية شديدة التخلف تتعارض أفكارها كليا مع طبيعة الحياة ومتغيراتها ومستجداتها، فتقضي حياتها في لعبة القاتل والمقتول، وتلك هي النتيجة الحتمية التي تقود إليها ثقافة الانتحار التي تعتنقها بعض القيادات المتطرفة، ويكتوي بنارها الكثير من الشباب الذي تغرر به، وتودي به في أتون دوامة لا نهاية لها أو ضياء.

والسؤال الذي ينبغي أن تبح له حناجر العقلاء: كيف يمكن الوصول بفكر الشباب إلى مستويات راقية من القدرة على محاكمة الأفكار، والتمرد على أساليب الاستهواء والإيحاء والتأثير المضلل بغرض تحقيق الأمن الفكري للشباب الذي يبدو أن شريحة منه عرضة للاختراق والاجتياح والتأثر؟

[email protected]