حول العولمة ومناهضتها..

TT

لا شك ان العولمة المعاصرة بكل ابعادها، وخاصة البعدين الاقتصادي والثقافي، ورغم انها تشكل فتحا جديدا في تاريخ الانسان على هذه الارض، ليست امرا مقبولا من الجميع، سواء من تلك الدول والمجتمعات التي وجدت نفسها خارج عملية صنع الظاهرة، او من فئات اجتماعية عديدة داخل ذات الدول والمجتمعات التي ساهمت في صناعة هذه الظاهرة. دول العالم الثالث بشكل عام، تجد في ظاهرة العولمة نوعا من تهميشها اقتصاديا، ومسخها ثقافيا، والهيمنة عليها سياسيا. وفئات اجتماعية عديدة في اوروبا واميركا، تجد في الظاهرة نوعا من رأسمالية جديدة وتقليدية في ذات الوقت، تدفعها للعيش على هامش المجتمع، فوق ما هي مهمشة اصلا. وفي رأي الكثير من المثقفين والمنظرين واصحاب الرأي والمشاركين في الشأن العام، فإن العولمة لا تعدو ان تكون شكلا متقدما من اشكال الرأسمالية، بكل ما يعنيه هذا النظام من توسيع الشقة بين فئات المجتمع وطبقاته، ناهيك من ذلك الشق المتسع اصلا بين الدول المساهمة في صنع العولمة والتحكم النسبي فيها، وتلك الدول التي تجد نفسها محل فعل للعولمة، من دون ان تكون لها يد في صنعها او توجيه نتائجها.

ولا شك ان كل ما قيل سابقا فيه من الصحة الشيء الكثير، ان لم يكن كله صحيحا، فالعولمة في التحليل الاخير ليست نظرية في الرفاه الاجتماعي، وليست مشروعا لاصلاح العالم، بقدر ما هي تطور تاريخي لنظام استطاع ان يفرض سيادته العالمية في النهاية، وفي هذه اللحظة من التاريخ على الاقل كي نبتعد عن مقولات نهاية التاريخ اسيرة لحظتها، ونعني بذلك النظام الرأسمالي. ليس مطلوبا من العولمة، بصفتها نظاما عالميا تاريخيا يفرض نفسه فرضا، او من المتحكمين النسبيين في سيرورتها ان يعنوا بمصير العالم وحالته الاجتماعية، فهم خاضعون لقوانين النظام التي تفرض نفسها على جميع المنخرطين فيه، ولكن هل يعني ذلك ان المسألة قدر او حتم لا راد له، وما على الجميع الا احناء الرؤوس لما قد يأتي من نتائج الله اعلم بها؟ المسألة فيها نظر هنا، وتحتاج الى شيء من تحليل نرجو ان يكون ابعد غورا.

فعندما بدأت الثورة الصناعية، وكانت انجلترا مركزها كما هي اميركا اليوم بالنسبة للعولمة، وبدأت الآلة تحل محل العامل في المعامل والمصانع، ادى ذلك الى نوع جديد من البطالة، فأخذ العمال في مهاجمة الآلات وتحطيمها، على اساس انها هي سبب بلواهم وتلك الاوضاع المزرية التي وجدوا انفسهم فيها، فوق ما هي مزرية في السابق. بمعنى آخر، فقد كان العمال يرون في الآلة والثورة الصناعية عدوا لهم، ومجذرا للاعدالة النظام الرأسمالي ومفاقما له، وهو الذي كانوا يعانون منه اشد معاناة. لم يكن العمال ساعتها يعلمون ان هذه الثورة، بالرغم من كل مساوئها، هي فتح جديد في التاريخ البشري، ولا يهمهم ان يعلموا. وهم لا يلامون في ذلك، فقد كان وعيهم آنيا مرتبطا بأحوالهم الاجتماعية المباشرة. ومن خلال هذا الوعي، كانوا يرون ان الآلة هي عدوهم المباشر، وهي المسؤولة عما يعانونه من سوء حال متفاقم. وبالنسبة للرأسماليين انفسهم، فقد كانت الآلة وسيلة لتقليص نفقات الانتاج، التي يشكل اجر العامل الجزء الاكبر منها، ولذلك كانوا يتجهون نحو المكننة اكثر فأكثر، فيما كانت احوال العمال تزداد سوءا على سوء.

ولكن المكننة المتزايدة والمتسارعة، وان كانت تعني تكاليف انتاج اقل، الا انها تعني اجتماعيا زيادة البؤس، والاهم بالنسبة لاصحاب رأس المال، هو انخفاض الاستهلاك. فالانتاج الكبير والرخيص، لا يقابله استهلاك كبير في ظل تدني الاحوال الاقتصادية للعمال، وهم غالبية السكان، فالمسألة معادلة بطرفين (انتاج ـ استهلاك) وهنا يكمن «كعب اخيل» بالنسبة للنظام الرأسمالي برمته: فمن اجل مزيد من الارباح، لا بد من تخفيض تكاليف الانتاج. وتخفيض تكاليف الانتاج يعني عمالا اقل. وعمال اقل يعني مستهلكين اقل. ومستهلكون اقل، يعني تكدسا سلعيا. وتكدس سلعي يعني ركودا اقتصاديا وازمة اقتصادية، وازمة اقتصادية تعني عدم استقرار اجتماعي. وعدم استقرار اجتماعي يعني تهديد النظام السائد بالسقوط. فالمسألة كما قلنا مسألة معادلة ذات طرفين. او دورة كاملة يجب ان تأخذ كامل حركتها وكافة ابعادها، واذا كسرت في جزء منها، فلا بد ان يصيب الكسر اجزاء اخرى.

من اجل ذلك، ظهر الفكر الاشتراكي في تلك الفترة بالذات، وخاصة تلك المذاهب التي تزعم لنفسها العلمية كالماركسية مثلا، على اساس ان الرأسمالية مليئة بالتناقضات، او تحمل بذور فنائها في ذاتها وفق التعبير الماركسي، وهي منهارة لا محالة نتيجة تناقضاتها التي تؤدي بها الى طريق مسدود، وخاصة التناقض الرئيسي بين علاقات الانتاج وقوى الانتاج. وما كان يراهن عليه اصحاب الفكر الاشتراكي هو عدم قدرة النظام الرأسمالي وقابليته للتحور والتحول. فالرأسمالية وحش لا يعيش بغير الربح والدورة المستمرة لرأس المال، وهذا لا يكون بغير تلك التكاليف الاجتماعية الباهظة التي ستفجر النظام من داخله في النهاية، فالرأسمالي لن يضحي بأرباحه او جزء منها في أي حال من الاحوال، ما لم يجبر على ذلك، وهذا قانون من قوانين المجتمع الرأسمالي، وهو ما سيدمر النظام من خلال ثورة اجتماعية شاملة في النهاية، تعيد التناسق المفقود بين علاقات الانتاج وقوى الانتاج.

ولكن الذي حدث تاريخيا لم يكن ازمة عامة للنظام الرأسمالي، ومن ثم ثورة تنقل المجتمع الى المرحلة الاشتراكية، بقدر ما كان قدرة النظام الرأسمالي على تحوير نفسه، وامتصاص التغيرات والعوامل المهددة لأسس النظام، بحيث اصبحت ذات تلك العوامل والمتغيرات جزءا من آليات النظام الرأسمالي نفسه. ظهرت نقابات واتحادات العمال كمدافع عن حقوق العمال في مقابل اصحاب رأس المال او ممثليهم (رجال الاعمال في الاصلاح المعاصر)، كما اصبحت المظاهرات والاحتجاجات والاضرابات وغيرها من وسائل للتعبير عن الرأي والموقف، جزءا لا يتجزأ من آليات النظام الرأسمالي الحديث، بعد ان اقترن بالديموقراطية الليبرالية بحيث اصبحا شبه نظام واحد، تعدله وقت الحاجة، وتقوم بحل تناقضاته ومشاكله بايجاز، فإن ما كان من العوامل التي كانت تهدد وجود النظام الرأسمالي، اصبحت اليوم من صميمه، وجزءا من آلياته. نقلة نوعية كبيرة في الحقيقة، من تلك اللحظة التاريخية التي كان العمال فيها يحطمون الآلات، الى اللحظة المعاصرة التي اصبحت فيها الآلة جزءا من الرفاه الاجتماعي العام، وبالنسبة للعمال وغيرهم في الدول الرأسمالية المتقدمة.

واليوم نحن على اعتاب ثورة بشرية تاريخية جديدة لا يمكن ان تقارن الا بالثورتين: الزراعية والصناعية. ونعني بذلك ظاهرة العولمة. واذا كان انتقال البشرية من حالة الترحال بحثا عن قوت يوم، الى حالة الاستقرار بعد الثورة الزراعية، قد ادى الى انبثاق فجر الحضارة الانسانية كما نعرفها، وكانت الثورة الصناعية قد نقلت الانسان من الخضوع للطبيعة الى السيطرة عليها وتحويلها، فإن ثورة العولمة المعاصرة سوف تنقل الانسان، كما هو ظاهر من ارهاصاتها الملحوظة، الى حالة مختلفة من الفعل الحضاري من الصعب التنبؤ بكل ابعادها. ثورة المعلومات والاتصالات وما يتعلق بها من شرائح الالكترون، الثورة في الهندسة الجينية، الاقتصاد العالمي الواحد، الثقافة العالمية الآخذة في التكون، وربما الدولة العالمية الواحدة.. من يعلم؟ فإذا كان الانسان في الثورة الاولى (الزراعية) قد استقر على الطبيعة، وفي الثانية (الصناعية) قد سيطر على الطبيعة، فيبدو انه في الثورة الثالثة (العولمة) سوف يتجاوز الطبيعة، او ما يبدو انه من الطبيعة. فما نحن له من الشهود اليوم هو شيء يفوق الوصف، وما نحن الا في البدايات، وبداية البدايات.

واذا كانت الثورة الزراعية قد واجهت انتقادات المفكرين واصحاب المذاهب بعد ذلك، من حيث انها هي المسؤول الاول عن ظهور الفردية في بذورها الاولى، ومن ثم الملكية الخاصة و«شرورها»، بعد ان كانت الجماعية والملكية الجماعية هي نمط العيش، كما واجهت الثورة الصناعية احتجاجات غاضبة من اصحاب الفكر واليد، على اعتبار تناقضها مع مسألة العدل الاجتماعي على المستوى المحلي، فإن العولمة تصادف ذات الشيء، وعلى المستوى المحلي والعالمي هذه المرة. وكما ان الرأسمالية لم تكن نظرية في العدل الاجتماعي، فكذلك هي العولمة. فكلا الظاهرتين تنتميان في النهاية الى «جين» واحد هو الآليات الاولية للنظام الرأسمالي، والفرق يكمن في مدى تعقيد هذه المرحلة عن تلك، والا فإن آليات الحركة الداخلية واحدة تقريبا. وبالنسبة لأي نظام، سياسيا كان ذاك النظام او اقتصاديا او اجتماعيا او ثقافيا او غير ذلك، فإن البقاء هو المحور الذي تدور حوله قوانين ذلك النظام، اسوة بالنظام البيولوجي ذاته. واذا لم يجد النظام تحديا له قد يمس اسس وجوده، فإنه لا يجد ضرورة للتغير والتحور والتكيف، ويستمر على ذات المنوال الذي وجد نفسه عليه. وعندما يواجه النظام تحديات معينة، فإنه إما يستطيع التأقلم معها واستيعابها وتطوير نفسه بالتالي، ومن ثم يستطيع البقاء، وإما يكون غير قادر على ذلك، فينهار ويحل محله نظام مختلف تماما، قادر على مواصلة الحياة. ينطبق هذا القانون ـ مع التحفظ على مصطلح القانون ـ على الحياة البيولوجية والحياة الاجتماعية معاً.

وبالنسبة لظاهرة العولمة المعاصرة، فإنها بدورها تنتج الاسس العامة لآليات كبح جماحها وتحولها. فثورة المعلومات ووسائل الاتصال مثلا سوف تلعب ذات الدور الذي لعبته الديموقراطية النسبية في بدايات الرأسمالية والثورة الصناعية، من حيث خلق الآليات التي من خلالها يمكن تعديل اتجاهات العولمة ونتائجها. لم تكن الديموقراطية وليدة الرأسمالية بالضرورة، ولكن الصراع الاجتماعي بين الطبقة الوسطى (البرجوازية) والطبقات القديمة، ادى الى ظهورها جزئيا، ومن ثم انتشارها جماهيريا، وهذا حديث يطول. وفي العولمة المعاصرة، ليس الهدف الاول من الثورة المعلوماتية هو نشر الوعي الجماهيري، ولكن هذا هو ما سيجري كنتيجة جانبية ليس من الضروري ان يكون مخططا لها، ومن هنا يبدأ التأثير في العولمة على نطاق واسع، ومن كافة المجتمعات المقصاة، والفئات الاجتماعية المهمشة. وعندما تتحقق مثل هذه الآليات، فإن العولمة سوف تجد نفسها مجبرة على التحول (قانون البقاء)، او الانهيار، ولا طريق ثالث بين الطريقين. ولكن الاهم في كل ذلك هو الاسهام في الظاهرة وصنعها وتحولاتها، مهما كان الاسهام ضعيفا، ففي النهاية استطاع حبل المسد ان يجرح حجر الصوان. اما مجرد الموقف المطلق، اما بالرفض او القبول، فهو الخطر هنا، سواء بالنسبة للمجتمعات المقصاة او الفئات المهمشة. وفي النهاية تبقى مقولة حكيم الصين كونفوشيوس صحيحة على الدوام: فايقاد شمعة خير من لعن الظلام.. والله المستعان في كل حال.