«قوائم المدن» رصاصة أخرى لاغتيال سلطة عرفات

TT

قوائم المدن بعد قوائم البشر، لكن لا شيء في النتيجة يخرج على سياق «الجريمة المنظمة» التي تشكل العنوان الأبرز لسياسة ارييل شارون.

ياسر عرفات تحدث قبل اسبوعين تقريبا عن خطة عنوانها «أورانيم» أي الجحيم، تمضي الحكومة الاسرائيلية في تطبيقها، بعدما سلمت السلطة الفلسطينية قائمة باسماء 75 ناشطا طالبت باعتقالهم والا فإنها ستقوم بقتلهم (كان بينهم شهداء عملية نابلس) لكن السؤال الآن: هل ان هذه الخطة توسعت بحيث تمضي الآلة العسكرية الاسرائيلية في اغتيال الناس والمدن الفلسطينية في سياق «الجريمة المشرعة»؟

قبل الاجابة عن هذا السؤال، قد يكون من الملائم استعادة الاستخلاص الواقعي الذي ورد في صحيفة «هآرتس» عشية الغارة على مدينة جنين، حيث قال المعلق السياسي يوئيل ماركوس ما معناه، ان لا شيء يوازي ابتعاد الأمن الا تبخر السلام، وان مشكلتنا هي ان شارون أو «السيد أمن» افضل مخطط اسرائيلي لميدان المعركة لا يملك حلاً عسكرياً للموقف! ولا هو يملك في الواقع حلاً سياسياً، اذ من المعروف ان الشعارات التي تقوم على روحية تدمير التسوية واتفاق اوسلو هي التي حملته الى السلطة في اسرائيل. وهكذا فإن ما يدور الآن بين الثنائي شارون ووزير خارجيته شمعون بيريس لا يعدو كونه توزيعا للادوار، وهو بالمناسبة توزيع متقن، الى درجة ان الكثيرين يتصورون ان وزير الخارجية يمكن ان يدفع شارون الى المأزق بخروجه من حكومة الاتحاد الوطني، ولكن نظرتهما العملية للأمور تبدو متشابهة جداً، فكلاهما يريد ادارة الدولة «وقيادتها الى النصر»، سلما أو حربا، وكلاهما يريد الآن تأجيل الانتخابات في «حزب العمل» بما يبقي العدوين اللدودين ابراهيم بورغ وبنيامين نتنياهو بعيدا أكثر وقت ممكن.

وعلى هذا الاساس يقدم شارون وبيريس نسخة منقحة عن الرواية البوليسية المشهورة: «الدكتور جيكل ومستر هايد»، صورة الوحش القاتل ليلاً الذي يصير طبيباً انسانياً ذا رأفة نهاراً. ربما لا يضيف هذا الاستخلاص كثيراً من العناصر الى النظرية التي طالما ترددت منذ تشكيل الحكومة الاسرائيلية على انقاض ايهود باراك ووعوده الخادعة بتسوية نزاع المائة عام في عام واحد، وهي ان بيريس يمثل القناع الخارجي لسياسات شارون الداخلية، ولكن من الضروري ان نتذكر دائما هذا الواقع ونحن نتعامل مع فصول الخداع المتلاحقة.

آخر هذه الفصول شهدناه بداية هذا الاسبوع عندما قيل ان شارون فتح كوة صغيرة في جدار تصلبه المتوحش، الذي يصر منذ وصوله الى السلطة على شعار «لا تفاوض تحت النار»، وهو الشعار الذي أدى الى نسف «ورقة تينيت» كما هو معروف، عندما أصر كولن باول على «اسبوع للهدوء» يسبق احتساب البدء بوقف اطلاق النار.

حدث ذلك بعد اجتماع صاخب عقده مجلس الوزراء الاسرائيلي يوم الاحد الماضي، حيث نأى بيريس بنفسه عن موقف الحكومة، الذي يشترط وقفا كاملا وبنسبة 100 في المائة لاعمال العنف قبل اطلاق مفاوضات مع الفلسطينيين، مستخدما تعابير قاسية، عندما ذكر رئيس حكومته بالكلام الصريح الذي سمعه من بولنت أجاويد والذي يقول: «ان فرض الوقف الكامل لاعمال العنف شرطا مسبقا يدعم لعبة مناهضي السلام الذين سيواصلون أعمال العنف بغية منع ابرام اتفاق بين الفلسطينيين والاسرائيليين».

وعلى طريقته المعتادة في اطلاق الشعارات المنمقة، قال بيريس للصحافيين وهو يغادر مجلس الوزراء: «البعض يؤكد وجوب عدم التفاوض في ظل استمرار اطلاق النار وانا أوافقه الرأي، ولكن علينا في النهاية التفاوض لوقف اطلاق النار (...) ولا اعتقد ان من الممكن وقف اطلاق النار عبر المضي في اطلاق النار.. هذا غير ممكن»! وقد بدا هذا الكلام بمثابة خطوة أخرى في «المنازعة» بينه وبين شارون، وقد تزامن تقريبا مع تسريبات لافتة ظهرت في صحيفة «معاريف» التي قالت انه بات في الإمكان ملاحظة تلميحات في أقوال «المستوى العسكري»، ربما تساعد على الاستنتاج ان هناك ميلاً الى التسليم بحقيقة، انه من دون «أفق سياسي»، أو من دون «جدول أعمال سياسي»، أو «برنامج سياسي مشجع لعرفات»، لن تتوافر أي فرصة لانهاء الفصل الدموي الحالي. و«الواقع انهم سوف يتفجرون وسوف نقصفهم، وسينفذون عمليات وسنمضي نحن في التصفيات وقد يستمر الأمر طويلا... أما من أجل ان يقوم عرفات ببذل مجهود حقيقي لوقف النار وكسر الحلقة، فإنه بحاجة الى أفق سياسي واضح».

وعلى خلفية هذا الكلام وما قاله بيريس في مجلس الوزراء، نقلت وكالات الانباء يوم الاثنين، أي بعد 24 ساعة كلاماً يقول ان شارون تراجع قليلا عن سياسته المتشددة وفتح كوة صغيرة أمام وزير خارجيته لاطلاق مفاوضات مع الفلسطينيين.

وقد جاء هذا الاعلان مترافقا مع أمرين ذوي دلالة، يهدفان الى تبرير تراجع شارون. الأول انه أراد ان يتجنب تفكك حكومة الوحدة الوطنية، حيث انه أجرى ومن دون نتيجة تذكر، اتصالات عاجلة مع زعماء حزبي المركز والديني الذين يعدان 10 مقاعد في الكنيست لدفعهما للانضمام الى الحكومة، وانتهى الأمر باقتناعه بأن التعاون مع بيريس يبقى أفضل من استبعاده.

أما الأمر الثاني فهو ربط المفاوضات التي سيجريها بيريس مع مسؤولين فلسطينيين رفيعين بثلاثة شروط للحؤول دون اضفاء أي طابع سياسي عليها. فقد اشترط ان يشارك الجنرال غيورا ايلاند رئيس قسم عمليات الجيش في المحادثات، وان تبقى الاتصالات سرية، وان لا تشمل عقد أي لقاء مع ياسر عرفات.

وقد اثار هذا الشرط الأخير سخرية البعض في أوساط حزب العمل، حيث قيلت تعليقات هازئة ومنها: ربما يريد شارون ان يحتفظ لنفسه بشرف الاتصالات مع عرفات... أولم يدأب على ارسال ولده عومري للقائه؟! لكن لعبة الوجوه والأقنعة سرعان ما ظهرت بكل تناقضاتها، فبعد 24 ساعة من الحديث عن السماح لبيريس باجراء مفاوضات مع الفلسطينيين، أرسل شارون دباباته الى قلب مدينة جنين في عرض للقوة استمر ثلاث ساعات وحمل كثيرا من المؤشرات وأهمها:

أولاً: الايحاء بأن خطة «أورانيم» أي الجحيم، التي تحدث عنها عرفات، انما يمكن ان تتسع لتشمل قوائم المدن كما تشمل قوائم ناشطي الانتفاضة.

ثانياً: ان هذه العملية تأتي بعد الاستيلاء على «بيت الشرق» في القدس اضافة الى ثمانية مراكز أخرى ذات رمز سيادي للسلطة الفلسطينية حول مدينة القدس.

ثالثاً: انها تأتي في سياق مواز للاستيلاء على ابوديس في القدس التي طالما تردد انها ستكون في نطاق «القدس الفلسطينية» أي عاصمة الدولة الفلسطينية في أي تسوية.

رابعاً: ان اقتحام جنين بأكثر من 50 دبابة ومجنزرة يعني اقتحاماً ميدانياً للسلطة الفلسطينية ولاتفاق أوسلو، حيث ان المدينة تقع ضمن «المنطقة أ» أي تحت السيادة الفلسطينية المطلقة، وكانت قد تسلمتها عام 1996 بموجب اتفاقات أوسلو.

خامساً: ان جنين باتت معروفة بأنها مدينة الاستشهاديين، أي انها توازي في الضفة الغربية ما تمثله غزة في القطاع اذا صح التعبير، ففي اقل من ثلاثة اشهر ارسلت هذه المدينة من مخيمها ستة استشهاديين من حركة «الجهاد الاسلامي» اصابوا مقتلا في الهيبة الأمنية الاسرائيلية عندما ضربوا في أمكنة كثيرة، منها الخضيرة والقدس وحيفا.. واقتحامها يعني ان اسرائيل تذهب في انتقامها إلى عقر الدار الفلسطينية.

سادساً: إن اضافة جنين الى قائمة «المدن المطلوبة» للعقاب، يعني وفق ما كتب مارك هيلر المحلل بمركز جافي للدراسات الاستراتيجية في جامعة تل أبيب، ان «شارون يريد ان يوضح لياسر عرفات ان اسرائيل بدأت تفكر جديا في أمور تؤثر على بقاء السلطة الوطنية الفلسطينية»، من منطلق الافتراض انه يرى ان ما يحرك عرفات ليس الاصابات ولا المعاناة الاقتصادية بل مستقبل السلطة وبقاؤها.

سابعاً: وعلى أساس استهداف اسس السلطة الفلسطينية وبقائها، استمر العدوان. الثلثاء اجتاحت الدبابات جنين، الاربعاء بوشر بتحريك المجنزرات في اتجاه منطقة بيت لحم، حيث توقف الحشد المدرع على مداخل بيت جالا والخضر وبيت ساحور، وقام بعزل المنطقة، في حين كان رئيس بلدية القدس ايهود اولمرت يهدد صراحة: «سنضطر الى القيام بعملية برية واتوقع ان تجيء مماثلة لما حدث في جنين، عملية واسعة النطاق شاملة تتحمل عواقبها بيت لحم ايضاً».

ثامناً: ان مشهد الدبابات الاسرائيلية وهي تصل الى قلب جنين ذات الكثافة السكانية العالية والواقعة تحت الحكم الفلسطيني يهدف في نظر شارون إلى تحطيم معنويات الفلسطينيين، وفي هذا السياق تعمد مسؤول حكومي اسرائيلي التعليق على هذا العدوان بالقول: «لقد استخدمنا نسبة بسيطة فقط من قدرتنا العسكرية في هذا الصراع واذا استخدمناها بالكامل فلن تكون هناك سلطة فلسطينية»! وسط لعبة «الدكتور جيكل ومستر هايد» التي يقوم بها الثنائي شارون وبيريس، اختصر وزير التخطيط والتعاون الفلسطيني نبيل شعث واقع التحركات والاجتماعات والتصريحات العربية التي لا تقدم ولا تؤخر حيث قال: «ان الادارة الاميركية هي القوة الوحيدة في العالم القادرة على الضغط على اسرائيل واجبار شارون على العودة الى عملية السلام».

فعلا.. ولكن الرئيس الاميركي اكتفى من مزرعته في واكو بابلاغنا تعليقا على الاعتداءات الاسرائيلية «ان المنطقة باتت بؤرة متفجرة».

فيا لهذا الاكتشاف العظيم... وشكراً.