قضية مركزية وثقافة هامشية

TT

ربما تكون فلسطين هي قضيتنا المركزية، ولكن لماذا لم نبن حولها ثقافة تحميها وتبررها للعالم؟ لكي تحل القضايا الكبرى لا بد من غرسها في تربة ثقافية تجعلها محط اهتمام العالم من منظور تفوق أخلاقي، هكذا فعل السود في جنوب أفريقيا حيث أصبح نيلسون مانديلا رمزا أخلاقيا عالميا قبل أن يكون رمزا سياسيا، أما قضيتنا فقد زرعناها في ثقافة هشة أخلاقيا وسياسيا. لم نتحدث إلى العالم كمظلومين ولكننا خاطبناهم على أننا عتاة وجبابرة، وكأننا لسنا مظلومين ولم يقع علينا ظلم تاريخي، ولكننا محاربون يبحثون عن عدو من أجل إثبات بطولة وقدرة، وكأننا أيضا نريد فقط ومن دون مبرر سحق إسرائيل ومحوها من الوجود، خطاباتنا للعالم كانت عن هذا السحق والمحق، وأننا انتحاريون عدميون، رغم أن العرب لم يكونوا أول من اخترع فكرة الانتحار كوسيلة للمقاومة، فقد سبقهم إليه اليابانيون في فكرة الطيار الانتحاري «الكماكازي» في الحرب العالمية الثانية، لكن فكرة الانتحار اليابانية رمزت بشكل مختلف عن انتحارنا وانتحار أطفالنا، أحيطت فكرة الانتحار اليابانية بحزام ثقافي، وارتبطت في أذهان العالم بثقافة الشرف ومحو العار الشخصي عند المقاتل الياباني، لذا رآها العالم على أنها محاولة أخيرة لدى مهزوم يريد أن يخرج من معركة بشرف، لم يرها العالم كما يرى من يفجرون أنفسهم عندنا في أناس لا ذنب لهم في القضية. انتحارنا لم ينبثق من منظومة أخلاقية تحميه فظهر للعالم على أنه عنف من أجل العنف، وبأننا ندفع أطفالنا لتبني فكرة الموت لا الحياة، أي أننا نقوم بنوعين من العنف، عنف ضد الأعداء وهو مبرر، وعنف ضد أطفالنا الأبرياء وهو غير مبرر في أي شريعة أو أي منظومة أخلاقية.

القضية مركزية ولكن الثقافة التي أحاطت بها لم تكن بمستواها ولم تؤمن لها الغطاء الأخلاقي الذي تستحقه. فلدى العالم اليوم قناعة بأن العرب لن يتركوا إسرائيل في حالها حتى لو أعادت إليهم الأرض، ترى من المسؤول عن ترويج هذه الصورة عن الشعب الفلسطيني المسكين والمحروم من أبسط مؤشرات الحياة الإنسانية الكريمة؟ إسرائيل مسؤولة بالطبع عن نسج هذه الصورة، ولكننا نحن من منحها الغزل ومنحها المواد لرسم هذه الصورة. نحن أول من ساهم في تشويه قضيتنا المركزية عندما عجزنا عن أن نبني حولها مؤسسات ثقافية تحميها، وعوضا عن ذلك أحطناها ببهلوانات في السياسة والثقافة.

«عابرون في كلام عابر»، تلك القصيدة المفعمة بالحس الإنساني العالي لمحمود درويش، والتي صورت الفلسطيني كإنسان لا كإرهابي أو كائن بدائي كما روج له اللوبي الإسرائيلي في الغرب، قصيدة حديثة مثل قصائد تي. إس إليوت أو قصائد شاعر أيرلندا العظيم دبليو بي ييتس، أظهرت مأساة الإنسان الفلسطيني في دنياه وأرضه وأزمته مع هؤلاء البشر الذين جاءوا من أصقاع الأرض ليشاركوه السماء والتراب. ارتعد المثقفون اليهود في نيويورك من هذا الصوت الفلسطيني الذي يلمس ضمير الإنسان أينما كان، فقد شغف العالم حبا بهذه القصيدة الإنسانية الرائعة. التوافق الأخلاقي والفني لقصيدة محمود درويش أحدث شرخا في الصورة النمطية التي رسمها مثقفو اليهود عن الشخصية الفلسطينية. نموذج آخر يحضرني عن الرموز الثقافية التي كانت داعمة أخلاقيا لقضية فلسطين، هو المفكر إدوارد سعيد الذي كان رمزا لفلسطين في نيويورك، رغم اختلافي مع سعيد في آخر حياته إلا أنني ما زلت أحبه كرمز وإنسان، فهو أيضا وقبل محمود درويش كسر الصورة النمطية عن الإنسان الفلسطيني الذي صور على أنه انتحاري وعدمي وإرهابي. كان إدوارد سعيد يحضر حفلات العشاء في نيويورك وواشنطن، لا ليتحدث عن فلسطين فقط، وإنما كان يتحدث عن الموسيقى وفنونها ويغوص في أدق تفاصيلها كأعتى عتاة النقد الفني، ويتحدث عن الآداب العالمية بصورة تبهر اليهود وغير اليهود، وكان يعزف البيانو كمحترف، لقد كان إدوارد سعيد رمزا ثقافيا أميركيا لا فلسطينيا فحسب. كان لديه التفوق الأخلاقي الذي يجعل من القضية التي يتبناها هذا الرجل قضية يلتفت إليها العالم ويستمع إلى صوتها.

ولكننا لم نحتف بهذا النوع من الثقافة الداعمة لقضية فلسطين، بل احتفينا بخطابات خالد مشعل الملتهبة من العواصم العربية والتي أضرت أكثر بكثير مما نفعت، ووقعنا في الشرك الإسرائيلي الذي يريد تحويل القضية من قضية ظلم إنساني إلى قضية إرهابيين يريدون القتل للقتل فقط، والذي يريد تكريس الصورة السلبية النمطية عن العربي عموما والفلسطيني خصوصا. وقعنا في الفخ وما زلنا، لأننا ببساطة قوم لدينا مخزون من السذاجة أكبر من مخزوننا البترولي والمائي. وما أكثر هفواتنا ولحظات وقوعنا فيما ينصب لنا من شراك وفخاخ، لأننا مغرمون بالمبالغة في الحديث عن الجهاد، حديث صاخب يشبه الزعيق، وهكذا بنينا حول القضية المركزية ثقافة من الزعيق، ثقافة تافهة «ع الآخر»، كما أصوات موسيقانا عالية «ع الآخر»، وأكلنا مشطشط «ع الآخر»، وزمارات سياراتنا عالية «ع الآخر»، وتهديداتنا لأعدائنا مبالغ فيها «ع الآخر».

واحدة من الفخاخ التي نصبت لنا أيضا ووقعنا فيها منذ أعوام كثيرة هي فخ لبنان، فالاهتمام اليوم بموضوع لبنان أكبر بلا شك من موضوع فلسطين، غرقنا في تفاصيل حياة حسن نصر الله ووليد جنبلاط وسعد الحريري وسمير جعجع وغيرهم، هؤلاء هم رموز السياسة العربية اليوم.. وأصبح هم الشارع العربي هل يذهب جنبلاط إلى دمشق أو لا يذهب، وهل يذهب ميشال عون إلى طهران أو لا يذهب؟ ترى ماذا سيحدث لو ذهب جنبلاط أو عون إلى القمر، بالطبع لا شيء، ولكن هذه هي مركزية السياسة عندنا اليوم؟ رموز الهامش السياسي العربي أصبحت اليوم في المركز، لأننا متميزون في صناعة الثقافة الهامشية، وتهميش القضايا المركزية.

فلسطين قضيتنا المركزية، هكذا تعلن تلفزيوناتنا وجرائدنا وحكوماتنا كل يوم، لكن سلوكنا وبرنامجنا لتحرير الأرض والبشر يقول بأن فلسطين هي آخر اهتماماتنا، بل أكثر قضايانا هامشية في الحقيقة، وإلا كيف نفسر أنها معنا منذ ستين عاما حتى اليوم ولم نتقدم خطوة في رفع المعاناة عن شعبها؟ لم نبن مؤسسات ثقافية مركزية لحماية القضية المركزية، بنينا مؤسسات هامشية، فأصبحت قضيتنا المركزية هامشية.

إذا كانت هناك نية لكسب العالم من حولنا من أجل قضية فلسطين، فلا بد من إنتاج ثقافة تغطيها، قادرة على السفر خارج الحدود. لا بد من بناء منظومات ثقافية تحمي قضايانا بسياج أخلاقي كما رأينا في حالة مانديلا وجنوب أفريقيا الذي انتصر بتفوقه الأخلاقي على عنصرية البيض في جنوب أفريقيا. ولا بد من الإقرار بأن مانديلا ما كان لينتصر لو لم يكن على الطرف الآخر شخص مثل رئيس جنوب أفريقيا في تلك الفترة إف دبليو ديكليرك الذي قبل أن يشاركه الحكم رجل أسود. بالطبع، لا يوجد في إسرائيل اليوم شخص مثل إف دبليو ديكليرك لديه أدنى درجات الضمير التي تحثه على إنهاء حالة الظلم القائمة والتي تعد من أسوأ حالات الظلم في العصر الحديث، ولكن نلوم جماعتنا الفلسطينيين على عدم قدرتهم على إنتاج مانديلا فلسطيني. ونلوم جماعتنا العرب على نفاقهم في حديثهم الدائم عن مركزية القضية، بينما تشارك أيديهم كل يوم في بناء ثقافة هامشية تقوض أسس قضيتها الكبرى المدعاة.