رأس العراقية

TT

المعرض الصيفي السنوي للأكاديمية الملكية البريطانية من الأحداث الفنية الأساسية في بريطانيا. اعتدت على زيارته في اليوم الافتتاحي للمعرض كواحد من أصدقاء الأكاديمية الرسميين. من المعتاد أن ينفرد عمل أو عملان من المعروضات باهتمام المعلقين والنقاد والجمهور عموما. ولكن بالنسبة لي حظي عمل واحد بجل اهتمامي. جلست أمامه لمدة طويلة عدة مرات. وكان لي، كما يقولون، مصلحة في الأمر. وكان التمثال من عمل النحات البريطاني الكبير مايكل ساندل، وهو من مشايخ فن النحت في البلد، ومن المعروفين بميولهم اليسارية وأسلوبهم الواقعي.. عنوان التمثال: «العراق ـ صوت سكوتكم».

يا الله! حتى هنا في معرض الأكاديمية الملكية للفنون في لندن يلاحقني العراق ولا يفك عني! «العراق ـ صوت سكوتكم».. إنه إدانة قوية ضد سكوت الجمهور البريطاني، بل وتأييدهم لغزو العراق. إذا كانوا قد سكتوا فهنا في هذا النصب صوت سكوتهم. التمثال من الحجر بارتفاع نحو مترين يمثل امرأة جالسة القرفصاء بدشداشتها وفوطتها، وفي حضنها ابنها الميت، مغطى ومحنط بالضمادات. حتى فمه كممه الضماد.

تفتش عن وجه أمه فلا تجد غير كتلة كبيرة من الحجر مكسرة ومموجة ومبعجة. لماذا يا ترى؟ لِمَ لم يعطها الفنان وجها؟ ما الذي قصده مايكل ساندل بذلك؟ تساءلت فأجابتني شريكتي في المحن والتيهان. قالت: المقصود بذلك أن المرأة العراقية لا وجه لها. «أخذوا وجهها»، كما يقول العراقيون، أصبحت مستباحة. قلت لا أرى ذلك. أعتقد أن النحات يقول لنا إنها تلقت من الضرب واللكم على رأسها طيلة حياتها، من والدها وإخوتها وأعمامها وأخوالها وأخيرا زوجها، ما أزال كل معالم وجهها.

قلت لأم نائل، انظري. هناك خطأ في نسب أعضاء هذا التمثال. أنا فنان وأدرك ذلك. فالرأس أكبر من نسبته الطبيعية للجسم. مايكل ساندل فنان قدير تجاوز السبعين من عمره في شغلة النحت. لا أراه يقع بمثل هذا الخطأ بسهولة. إنه يريد أن يقول لنا إن أهلها قد كالوا لها من الضرب ما ورّم رأسها وأعطاه هذا الحجم الكبير. هذا كله ورم من الضرب.

ها أنت تعود لأفكارك التشاؤمية السوداوية يا عزيزي.. قالت وأضافت. هذا الرأس المبالغ في حجمه وكبره تعبير عن كبر المرأة العراقية وكبريائها وسعة تفكيرها وذكائها. هنا في بريطانيا، أجد العراقيات يتولين أسمى المهمات، ويتقدمن على كل زملائهن في المهنة والحرفة. لن أعجب إذا سمعت أن صاحبك هذا النحات، مايكل ساندل، ما زال حيا بيننا بفضل عملية جراحية خطيرة قامت بها جراحة عراقية في أرقى المستشفيات. لا أدري ما السر؟ أنتم أيها العراقيون، وأنت بصورة خاصة يا عزيزي، تستمتعون بالدوس على أبناء وبنات وطنكم.

ـ «هذا موضوع يتطلب تمثالا أكبر».