الحروب الجهادية: حماس تخسر معركة الآيدولوجيا

TT

كسبت حماس معركة السلطة، وخسرت معركة الآيدولوجيا. كان إلحاق الهزيمة بفتح غزة (2007) سهلا للغاية. اهتراء فتح هناك أغرى حماس الأكثر تنظيما، بالتمرد واغتصاب السلطة، وتأسيس الإمارة الإخوانية على أَنْقاض الوحدة الوطنية.

حماس لم تكن وحدها في معركتها مع فتح. كانت معها فصائل فلسطينية مختلفة، في مقدمتها تنظيم «الجهاد» الأصغر والأكثر تزمتا. لكنْ كان هناك شريك آخر تسترت عليه: التنظيمات والخلايا شبه السرية الجهادية التي ترتبط بـ«قاعدة» ابن لادن، أو تستلهم فكرها التكفيري والحربي.

هذه التكفيريات رحبت، مبدئيا، بانتصار حماس. وربما شاركتها في تحييد قوات فتح (المنظمة العلمانية). في المقابل، كافأت حماس الجهاديات القاعدية بتعاطف حنون، وصل إلى حدود التسامح مع التدريب والتجنيد. الأهم من ذلك كله، فقد غضَّتْ حماس النظر عن تسلل عناصر «قاعدية» عبر الأنفاق وصحراء سيناء.

حلف «الجنتلمان» غير المكتوب بين إمارة حماس الإخوانية وهذه التنظيمات القاعدية، استمر منذ استيلاء حماس على غزة، إلى انفجار الحرب مع إسرائيل التي انتهت في أوائل العام الحالي، من دون إسقاط نظام حماس، لكنها كانت كافية لردعها. أنهت حماس حربها الصاروخية، لتعقد من خلال مصر تهدئة مهزوزة مع إسرائيل، بل لِتلَوِّحَ بهدنة طويلة قد تستمر عشْرًا أو عشرين سنة!

التنظيمات «القاعدية» لم تشارك في الحرب. لكن تحييد صواريخ حماس والهدنة مع إسرائيل، فجرا التناقضات الصامتة بين الإخوان وحلفائهم القاعديين. زاد في اللهيب انتقال ساحة المواجهة مع العدو من شمال قطاع غزة، حيث كانت تنطلق الصواريخ، إلى جنوب القطاع، وتحديدا إلى خان يونس ورفح، حيث «تورا بورا» التي يتركز فيها الوجود القاعدي الكثيف.

لماذا رفح بالذات؟ لأن إسرائيل نقلت ميدان المواجهة من حرب الصواريخ إلى حرب الأنفاق. هناك نحو ألف نفق. معظمها تسيطر عليه حماس. بعضها تسيطر عليه تجارة «الترانزيت». بعضها خاضع للتنظيمات الجهادية التي تكاثرت وَنَمَتْ كالفطر، في عصر الوفاق الحنون مع حماس.

في رفح وخان يونس، تركز البؤس واليأس اللذان كانا أرضا خصبة لتجنيد القاعديين لمئات الشباب. قَوْلَبَة حماس، عبر الإعلام الموجه، للمخَيِّلَة الشبابية، هيأت المناخ البيئي الملائم لانتشار آيديولوجيا الجهاد الحربي، وللانضواء تحت مظلة التنظيمات «القاعدية». بل تعرضت حماس ذاتها للتآكل. مهادنة العدو لاقت رفضا لدي قواعدها الشبابية وقياداتها الميدانية. وما لبث أن تُرجم هذا الرفض بالانسلاخ عن حماس، والانضمام إلى التنظيمات «الجهادية». اشتدت النقمة على حماس، عندما لم تمنع التهدئة إسرائيل من تشديد الحصار على غزة، وشن الاقتحامات البرية لتجْريف الأرض الزراعية، وتدمير المساكن وتهجير السكان، ثم الطلعات الجوية المتواصلة لتدمير الأنفاق، بقنابل الأعماق التي زودت أميركا إسرائيل بها.

على أية حال، أقول إن حماس حاولت استعادة المبادرة من الجهاديين القاعديين، من خلال تَوَجُّهَيْنِ اثنين: آيديولوجي وميداني. فقد راحت ترسل شيوخها إلى المساجد لـ«توعية» الشباب الذين استقطبهم القاعديون. ثم السيطرة على الأنفاق للتحكم بحركة التسلل والتموين. عندما أخفق مشايخ العقيدة، تحركت قبضة وزير الداخلية سعيد صيام الأمنية (قتلته إسرائيل خلال الحرب). تَمَّ شن حملة مراقبة وملاحقة واعتقال، ومحاولة لاستعادة المساجد التي احتلتها التنظيمات القاعدية.

أستطيع أن ألخص التناقضات الآيديولوجية بين حماس والقاعدة بالقول إن الخلاف تركز حول تطبيق الشريعة. اعتبر القاعديون مشاركة حماس في الانتخابات التشريعية انتهاكا لمبدأ «الحاكمية الإلهية». وأضح أن السخرية هنا في كون الإخوان المسلمين مكتشفي هذه الحاكمية «المقدسة»، عندما قرأوا فقه الإسلامين الهندي والباكستاني، عند النَدَوي والمودودي. وبالتالي، فحماس اليوم هي ضحية الآيدولوجيا التي اعتنقتها التنظيمات القاعدية والجهادية، نقلا عن التنظير الإخوانى.

أيضا، كان وصل حماس مع إيران سببا لاعتراض «القاعديين» الذين يكفّرون المذهب الشيعي. وبالتالي فهم يكفّرون حماس التي تستلهم الجهادية الشيعية. كان تردد «حزب الله» في خوض حرب غزة، قد أضعف منطق حماس الإيراني، أمام منطق القاعديين الذي لقي قبولا واسعا لدى الغزيين، بما في ذلك قواعد حماس الشبابية.

أيضا وأيضا، تسبب حوار المصالحة بين حماس وفتح، عبر القاهرة، في قلق القاعديين من عودة الوحدة الوطنية، وإنهاء حصار غزة، الأمر الذي يشكّل ضربة قاضية لِمَحْمِيَّة «تورا بورا» القاعدية في رفح وخان يونس. أخيرا، عجّل الموت السريري لمشروع الدولتين، بقيام حكومة (جهادية/ صهيونية) رافضة للدولة الفلسطينية. بات على حماس والقاعديين إعادة ترتيب بيتهما في غزة، لمواجهة المجهول، فيما تبدو «فتح» قد أعادت بناء هيكلها التنظيمي، وتحاول جاهدة استعادة مصداقية السلطة الشرعية، بمكافحة الفساد، وضبط الأمن، وتنشيط حركة التجارة ومشاريع التنمية.

وهكذا، فالتناقض الآيديولوجي يبدو صارخا بين الجهاديتين الإخوانية والقاعدية. تعبّر عن ذلك الحملات التكفيرية التي يشنها الظواهري وابن لادن على حماس والإخوان. بمعنى آخر، فعولمة الجهاد التفكيري عند «القاعدة» ليشمل العالم كله، بما في ذلك مجتمعاتها العربية والإسلامية، لا ينسجم مع الجهادية الإخوانية التي تقصر الآن دائرة اهتمامها بالمنطقة الإقليمية العربية/الإيرانية.

ما الحل لإنقاذ حماس من أزمتها التي أَوْقَعَتْ نفسها بها؟ لا حل سوى بالعودة إلى الشرعية، وحكومة الوحدة الوطنية. لعل هذا الحل، يقوم على التساهل مع حماس، بإبقائها قوة أمنية في غزة، في مقابل عودة السلطة الشرعية إلى غزة وإطلاق الحريات السياسية القادرة على إنهاء الاختناق الفكري برؤى فكر قاعدي مسطح وساذج، تسبب في مذبحة للقاعديين.

على كل حال، أثبتت تجربة الإمارة الحماسية في غزة والمواجهة الدموية مع «القاعدة» أن الجهاديتين الإخوانية والتكفيرية غير مؤهلتين لإقامة حكم مستقر يصالح الدين مع العصر، ويقبل بالحوا وحرية الفكر.

المواجهة لم تنتهِ بعد. أحزان غزة مرشحة للاستمرار. من المبكر التسليم بادعاء حماس أنها أحكمت السيطرة. كان على الإعلام العربي أن ينتظر ماذا ستقول الروايات المستقلة للأحداث: كيف جري الاشتباك؟ كيف تهاجم سلطة دينية مساجد محرم الاقتتال فيها؟ لماذا الحسم بالقتل الجماعي بهذه السرعة؟ ثم ماذا سوف تقول الألسنة الطويلة لمنظمات حقوق الإنسان عن ملابسات المجزرة.