«الجهاد» ضد حماس وشيخ شريف

TT

من العجائب، والعجائب جمة، أن يتنادى وزير دفاع حكومة شيخ شريف في الصومال، والناطق باسم وزارة الداخلية الحمساوية في غزة، إلى المطالبة بالوسطية الإسلامية ووصم من يقاتل حكوماتهم بالانحراف الفكري والبعد عن الفهم الصحيح للإسلام أو التعرض لـ«غسيل المخ» حسب الاستخدام المسرف لهذا الوصف، الغربي الجذور، والذي يشي بطهرانية مضادة مدعاة.

بعد اندلاع النار بين جماعة السلفيين الجهاديين في غزة وحماس، لم تعد حماس هي المحتكرة للنقاء الإسلامي، فهناك من هو أكثر نقاء منها وأجدر بتمثيل الامتثال الصارم لتعليمات الشريعة وتطبيق شعار «الإسلام هو الحل» شعار «الإخوان» الأثير.

في مسجد ابن تيمية بجنوب غزة، كانت نهاية الصورة المثالية لحماس، مواجهة قتل فيها زعيم «الجهاديين» الداعين لإقامة «إمارة إسلامية» أبو النور المقدسي ورفاقه، ومحمد الشمالي أحد أبرز قادة كتائب القسام في غزة، بعد معركة «الإخوة في الله» أسقط في يد حماس وحاول الناطقون باسمها التقليل من شأن الجماعات الجهادية المحاربة لهم ونزع صفة تنظيمات عنها وأنهم مجرد «أفراد» ضالون، وشرذمة قليلون، ولم يجد إسماعيل هنية، رئيس هذه الحكومة الغزاوية «النقية» سوى الوعظ عن الانحراف الفكري، وإلقاء اللائمة على «جهات» لم يسمها بإحداث هذه الجماعات وتغذيتها، نكاية بحماس، والإشارة واضحة هنا طبعا إلى رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، وهو ما صرح به الناطق باسم داخلية حماس إيهاب الغصين الذي قال لمركز البيان للإعلام، المتعاطف مع حماس، إن عبد اللطيف موسى «أبو النور المقدسي» زعيم هذه الجماعة «الجهادية» له اتصالات بأجهزة محمود عباس.

هذا في غزة، أما في مقديشو وبعد استفحال الميلشيات التابعة لخصوم شيخ شريف، رئيس الحكومة الصومالية، خصوصا من جماعة «شباب المجاهدين»، فقد احتار مشايخ الأمس وحكام اليوم في كيفية مواجهة من يقاتلهم بلغتهم، فخصوم شريف يقاتلونه لأن شيخ شريف خان الأمانة وعلمن الصومال، يجب قتاله هو وحكومته بدعوى الردة، كما قال نائب مسؤول المحكمة الشرعية في «كيسمايو» الذي أكد أنه لا فرق بين الحكومة الجديدة وسابقتها، وقال إنها تحالف يضم من سماهم «المرتدين من الحكومة السابقة» ومن قال إنهم «إسلاميون انتهت صلاحيتهم ووقعوا في محظورات تخرج عن ملة الإسلام».

بعد هذا كله خرج وزير دفاع حكومة شيخ شريف هذه، وقال «الكثير من المقاتلين الإسلاميين ليست لهم أيدلوجية سياسية عميقة، ومنهم من تعرضوا لغسيل مخ، أو أرغموا على القيام بما ينفذونه». كما نشر في هذه الجريدة الأحد الماضي.

العنصر المشترك بين حكومة حماس في غزة وحكومة شيخ شريف في مقديشو هو أنها سلطات حكم نبعت من رحم جماعات إسلامية كانت معارضة للحكم القائم قبلهم، أو شبه الحكم بالأحرى، بدعوى أن هذه الحكومات علمانية أو معطلة للجهاد أو لا تطبق الشريعة.

هذا هو سبب قيام حماس من البداية، وهو سبب قيام المحاكم الإسلامية في الصومال، ولكنهم حكموا ووصلوا بطريقتهم، حماس عن طريق أخذ الحكم بالقوة في غزة والانفراد بها، بدعم من أطراف إقليمية، وجماعة الشيخ شريف أخذت الحكم بعد توافق إقليمي إفريقي ودولي، لكن الجماعتين لم تأخذا في الاعتبار انه «وفوق كل ذي علم عليم» وفوق أصوليتهم أصولية أخرى.

الحل متشابه لدى حماس غزة وحكومة شيخ شريف، وهو: وصم المخالفين بالانحراف والبعد عن الإسلام ووجود أطراف خارجية تستفيد منهم، ومحاولة احتكار الإسلام الحق عبر ترديد مفردة «الوسطية» التي لو طبقها خصومهم فلن يفعلوا هذه المنغصات. والوسطية هنا لا تعني سوى التزام تفسيرات وتوجهات حماس أو شيخ شريف وعدم مزاحمتهم على تفسير آخر للإسلام، وبالتالي السلطة.

كان من أسباب قيام حماس التي ظهر اسمها منذ انطلاق الانتفاضة الأولى ديسمبر 1987. هو استئناف الجهاد في سبيل الله ورفض كل عملية السلام، وكانت الحركة جناحا من أجنحة الإخوان المسلمين كما قال الميثاق التأسيسي لهذه الجماعة الصادر في أغسطس 1988 وفي هذا الميثاق تتحدث حماس عن أن هدفها بعد تحرير الأرض هو إقامة الدولة الإسلامية المفقودة، أي تطبيق الشريعة. ووصلت حماس في مؤتمرها الداخلي 1983 إلى أنه لا تعارض بين فكرة التحرير الداخلي وهدف إقامة الدولة الإسلامية الشرعية.

حماس، بعد ذلك، دخلت في زواريب القضية الفلسطينية وإيقاعات الدول الإقليمية، وابتعدت كثيرا عن شعاراتها الأولى بسبب طبيعة التكتيكات السياسية، مطمئنة إلى قوة كتائبها وأمنها وظهيرها الإقليمي، والى أنه لا منافس لها على الدكان الإسلامي، حتى خرجت لهم حية القاعدة في غرفتهم. كذلك الأمر مع شيخ شريف في الصومال، وخصمه الشيخ عويس الذي يراه انحرف عن الدين وخان القضية، ولا ندري لو وصل عويس قبل شريف للحكم في مقديشو فلربما كان شيخ شريف هو من يتهم الآن عويس بنفس التهم!

اللجوء المزمن إلى هذه الحيل اللفظية، صار مكشوفا ومملا، ومعبرا عن حالة معقدة من التشويش والارتباك، بل قل الخوف والذعر من مواجهة الأسئلة الحقيقية، نتحدث عن حماس وغير حماس... الوسطية التي يدندن بها قادة حماس ضد جماعة الشيخ أبو النور المقدسي ليست إلا اسما حركيا للخضوع لهم والتزام تفسيرهم لكيفية تطبيق الإسلام، وكثيرة هي الأسماء والأوصاف المراوغة التي تستخدم الآن في مواجهة فكر هذه الجماعات.

بعيدا عن انتهازية حماس وألاعيب حكومة شيخ شريف، وكل من يردد مثل هذه الأوصاف التضليلية في طول العالم الإسلامي وعرضه، بعيدا عن هذا كله، وعن تفسير وفهم تحالفات ومآلات حماس وشيخ شريف وطالبان وغيرهم، يبقى القول إن الكل، لا يفضل الخوض في صلب المشكلة محاولا تشتيت الانتباه عن جوهر الأزمة المتمثل بمعضلة عطب الفكر السائد عن علاقة الدين بالدولة والشرعية بالمجتمع في العالم الإسلامي، هناك مشكلة لا يراد نقاشها بصدق وصراحة، تتمثل في كون مفاهيم الإقصاء الديني ومعنى الشرعية السياسية والدينية، هذه المفاهيم ليست محصورة في خطاب جماعات العنف والإرهاب، بل هي مفاهيم موجودة في نسيج الخطاب الديني السائد، وكل ما يطرح لمجادلة خطاب العنف الديني المضاد «يحوم حول الحمى» ولذلك فأثره ضعيف وهزيل ومؤقت لا يلبث أن يزول، لأننا لم نضع، ولا نريد أن نضع، يدنا على عصب المشكلة الحقيقي.

ربما اقرب من لامس ـ اقرب وليس أدق ـ طبيعة الأزمة هو رئيس وزراء باكستان الحالي يوسف جيلاني الذي قال الجمعة الماضية: «نعتقد أن الحل الدائم لمعالجة الإرهاب يكمن في تغيير تفكير الناس»، لكن كيف يغير تفكير الناس؟

أما ترديد كلام متشابه من باكستان إلى المغرب عن الوسطية ووجود أطراف خارجية تحرك الإرهابيين أو الأصوليين، فهو حديث، على كونه مكررا، لا علاقة له بجوهر الأمر الفكري.

من أجل ذلك تصبح الوسطية مجرد كلام تزييني لا يقدم ولا يؤخر، ويصبح تساؤل مثل الذي طرحته جريدة الجريدة الكويتية تعليقا على الخلية الإرهابية الجديدة في البلاد: «لماذا لم ينقذنا مشروع الوسطية من الإرهاب» (الخميس 13 أغسطس الحالي) مشروعا وقائما ومازال معلقا على خشبة الحيرة... وسيبقى كذلك إلى حين، وحتى ينزل السؤال من خشبة الانتظار، سنسمع كلاما كثيرا ومكررا عن الانحراف وغسيل المخ والوسطية الغامضة المفقودة...

[email protected]