عندئذ يمكن تحقيق الأمن

TT

كان بودي الكتابة عن عار اغتصاب عدد من المشاركين في الاحتجاجات الإيرانية، الذي يفترض أن ترتفع بسببه الرايات السود على كل بيت في إيران، حتى تثبت التحقيقات شيئا آخر، أو تطبق إجراءات صارمة بحق القائمين بهذا الفعل الشنيع. وعن قطع إيران روافد المياه لتحويل العراق إلى صحراء وسوق لمنتجاتهم الزراعية، وعرقلة تنظيف شط العرب. لكن الأحداث الدامية في العراق جعلتني أغير الموضوع.

أذكر أن مسؤولا غربيا سألني قبل عدة سنوات، عن تخميني للمدى الذي ستستمر فيه العمليات الانتحارية، فقلت إنها قد تأخذ عشرين عاما، إن لم يجر وضع حد للانقسامات الداخلية! وأتمنى أن أكون مخطئا في التقدير.

ما يحدث في العراق في المرحلة الحالية يتطلب مراجعة شاملة. ليس بسبب بشاعة الجرائم فحسب. بل لأنه يحدث بعد ست سنوات على التغيير، وبعد انتفاضة كبيرة على قوى الإرهاب، ورغم وجود نحو مليون شخص تحت السلاح يستنزفون نسبة كبيرة من أموال الخزينة العراقية، بدل تسخيرها لمعالجة مشاكل اقتصادية أرهقت كاهل الفقراء.

لا أحد ينكر وجود حراك سياسي ووعي شعبي متزايد، وحصول تحسن أمني، إلا أن الطروحات السياسية للعديد من الكتل لا تزال سطحية ودعائية، في مجال تخطي مرحلة السعي إلى السلطة، والعزف على أوتار طائفية وعرقية. وظهور مصطلحات غريبة، تحولت إلى فيروس سياسي. ومجرد الكلام عن (المكونات)، وليس الدخول في التفصيلات، يعني تقسيما للمجتمع. لأنها تعني وجود كيانات منفصلة اجتماعيا وجغرافيا، جمعتها ظروف معينة في وعاء تتفاعل فيه عناصر غير متجانسة. لذلك، على السياسيين تحديدا والعراقيين عموما، التثقيف على تفادي تداول كلمة «المكونات» إن أرادوا لبلدهم الوحدة والتماسك والاستقرار.

الصراع السياسي على السلطة في ذروته. فالكل «حتى الآن» متشققون ومبعثرون ومتصارعون من أجل الوصول إلى البرلمان، وهي حالة صحية عندما تشمل الجميع وتكون غايتها البحث عن خيارات الخلاص من الرواسب القديمة والحديثة. أما أن تتكتل الشرائح على قواعد طائفية وعرقية، فلن يكون تكتلها لخدمة التطور الوطني المفترض. بل يعيد تجديد الوضع العراقي الذي أسس لنوازع المفاصلة في انتخابات 2005.

ولم يثبت أي طرف من الأطراف قدرة فعلية على تكوين حالة وطنية قادرة على تصحيح المعادلات بعيدا عن نعرات التفرقة. وهو ما ينعكس سلبا على الوضع الأمني، فيما يبحث العراقيون عن منفذ للخلاص من الاغتيالات والتفجيرات فضلا عن مشاكل الخدمات والكهرباء.

ومهما قيل ومهما رُوج، لم يعد الوصول إلى المستوى المطلوب من الأمن متاحا، إلا إذا استقرت النفوس على مستقر التعايش الديمقراطي الذي يدعيه الجميع ولا يطبقونه، بعيدا عن الخصوصيات الخاصة، التي يحق لكل فرد التمتع بها ضمن حدود الالتزام الوطني، وطي ورقيات التاريخ «كله»، فحتى الحوار حولها يثير الفتنة.

صحيح أن الأمن فلسفة خاصة يتوقف النجاح فيها على مجموعة الخطط والمتطلبات وهياكل المؤسسات، إلا أنه من غير المتوقع تحقق النجاح، طالما بقيت النظرات السياسية متضاربة، وبقيت القوى السياسية، وغالبيتها ليست سياسية بقدر امتلائها بشحن لوني، تسير في اتجاهات متعاكسة تدل على قصور في فهم المتغيرات الدولية.

في الحسابات التقليدية التي تبنى على أسس وقوع صراع بين دولتين تكون القوات التقليدية الكبيرة من أهم عناصر الحسم، إذا ما توافرت لها المستلزمات التقنية، إلا أن وضعا كالذي يمر فيه العراق لا يؤخذ التوسع الأفقي في حجم التشكيلات قياسا لفرض الأمن، لأن تهديدات الأمن ذات طابع استخباري. ولا يشكل الإرهابيون أهدافا واضحة تتطلب قوات كبيرة، وتعتمد معالجتهم على وجود أجهزة أمنية مختصة تتمتع بكفاءة عالية لا تتحقق إلا تحت سقف القناعة بالمؤسسات الشرعية للدولة وعدالتها. وهذا ينطبق على المواطن العادي كي لا يغمض عينيه عن نشاطات الإرهابيين.

وقد يتحول التوسع الأفقي في بناء قوات الجيش والشرطة وغيرهما إلى عبء متعب في مراحل البناء السريع، وتكون الثغرات الأمنية أشد خطرا. وعندما لا يكون ولاء الجندي محسوما للنظام السياسي، إذا ما شعر بتمييز أو دونية في استحقاقات المواطنة، تصبح اتجاهات الخطر مفاجئة للقيادات الحاكمة والأمنية على السواء. ونشاطات العنف أكثر إيذاء.

لتحقيق الأمن، لا بد من تحقيق مصالحة شاملة وصادقة، والاصطفاف في خطوط الوحدة الوطنية، وترك المناورات السياسية المؤقتة، وتأمين حاجات الناس، وبناء أجهزة أمن حرفية من كل العراقيين بما في ذلك الخبرات السابقة، وإيقاف التوسع في بناء الجيش والشرطة وتعزيز قدراتهما التقنية وتنقيتهما، ودمج العراق بمحيطه العربي، والأخذ من تجارب الغرب الديمقراطية، وأن يستفيق المتشددون من السياسيين مما هم فيه، لسحب البساط من تحت جماعات العنف. وعندئذ يمكن تحقيق الأمن.