سياسة السياسات العامة

TT

ذهبت إلى واشنطن بحثا عن الكيفية التي سيحل بها الأميركيون الصراع العربي ـ الإسرائيلي، فلم أجد أحدا مهتما بالموضوع، أو على وجه الدقة سوى جماعة محدودة من اليهود والعرب جعلوا من الصراع الأزلي مهنة في الصحافة ومراكز البحوث ومحطات التلفزيون. وكنت أفكر عما إذا كان ممكنا فهم الذي يجري في أفغانستان والعراق من حروب، وهل ما زالت الحرب ضد الإرهاب قائمة، فلم أجد سوى مجموعة صغيرة من البيروقراطيين الذين يشعرون بالسأم من صراعات لم يعد أحد يتذكر متى بدأت، فكيف يفكر متى تنتهي. وكانت هناك فكرة ملحة قوامها أن منطقة الشرق الأوسط تتعرض لموجة من فشل الدول، وإذا كان انهيار الصومال قد قاد إلى القرصنة، فإن انهيار السودان واليمن وربما العراق أيضا، سوف يعطي الإرهابيين والقراصنة والجريمة المنظمة قواعد للإمداد والتموين والتدريب والعنف بلا حدود؛ ولكن الفكرة على ما تبدو عليه من فزع لا يوجد من يشتريها، فربما كانت هذه هي أحوال ناس يحبونها ـ أي الدولة ـ فاشلة. والخلاصة أن من بقي في واشنطن خلال شهر أغسطس لم يكن مستعدا أن يضيف إلى الحر والرطوبة والأمطار السخيفة شئونا للشرق الأوسط قد تبدو مزعجة، ولكن متى كانت تلك المنطقة من مناطق العالم اللطيفة!!

وصلت واشنطن ومعي 9 طائرات في نفس اللحظة، وكان ذلك مبشرا بما سوف يأتي فقد أصبح الهواء في صالة الانتظار ثقيلا وكان في كل الأحوال طويلا، وعند الخروج من المطار كانت اللزوجة قد وصلت إلى نهايتها، ومع غياب الاهتمام بكل ما يخص المنطقة فقد بدت الرحلة كلها لا معنى لها. ولكن الحال لم يكن كذلك أبدا، فقد كان هناك أمر مثير للغاية وهو الحديث عن السياسة الصحية الجديدة التي طرحها باراك أوباما. وحسب معلوماتي فقد كان الرئيس الأميركي مقيما في كامب دافيد مستمتعا بطقس جيد، أو بنوع ما من الإجازة التي لم تمنعه من التواجد على كل الشبكات التلفزيونية في نفس الوقت. وكانت القصة التي تجذب الجميع متعلقة بالسياسة الصحية للولايات المتحدة الأميركية؛ ولمن يظن أن قضية الشرق الأوسط قد باتت من القضايا المملة التي لا تثير أحدا، سلاما أو حربا، فإن موضوع الرعاية الصحية على طول مدة الاهتمام به لا يبدو أنه قد وصل إلى هذه المرحلة بعد.

كان موضوع الرعاية الصحية في الولايات المتحدة مطروحا منذ وطأت قدماي أرض العالم الجديد لأول مرة عام 1977 طالبا بالدراسات العليا، وكان الوقت أيامها زمن الرئيس اللطيف جيمي كارتر. ومع مطلع التسعينيات ذهبت إلى أميركا لمراقبة الانتخابات الأميركية بين جورج بوش الأب، ومنافسه في ذلك الوقت بيل كلينتون. ووجدت هذا الأخير غير مهتم بالصراع العربي ـ الإسرائيلي، ولكنه يعطي أهمية بالغة لموضوع آخر هو السياسة الصحية. وبعد أن فاز الأخير في الانتخابات ووصل إلى البيت الأبيض فوض زوجته هيلاري ردمان كلينتون بأن تشرف شخصيا على صدور تشريع جديد للسياسة الصحية. وها هي الأيام قد مرت، وقضى بيل كلينتون ثماني سنوات في البيت الأبيض، ومن بعده جاء جورج بوش الابن لثماني سنوات أخرى، ومن بعدهما جاء باراك أوباما لكي يفتح الموضوع من جديد.

ولا توجد هنا نية لشرح موضوع الرعاية الصحية، ليس فقط لأنني لا أفهمه على وجه الدقة، وإنما لأن ذلك ليس هو الغرض من المقال. وما لدينا على أية حال أن الولايات المتحدة لديها نظام للرعاية الصحية يختلف تماما عن الدول الرأسمالية الصناعية المتقدمة الأخرى. فبينما تتدخل الدولة في هذه الأخيرة لضمان وصول الرعاية الصحية لكل أفراد الشعب مهما كان الموقع الطبقي لهم، فإن الأمر متروك تماما للفرد في أميركا من خلال التأمينات الصحية التي يدفعها الفرد، ومن ثم فإنها تختلف من شخص لآخر حسب الأعباء الواقعة عليه. ولكن نتيجة ذلك هي أن هناك 47 مليون أميركي لا تشملهم أي رعاية صحية، وهم غير القادرين من بين 350 مليون أميركي على دفع تأمين صحي من أي نوع؛ وفوق هؤلاء الملايين يوجد من هم أكثر بكثير الذين يدفعون التأمينات ولكنها لا تغطي الحالات الحرجة والمكلفة، ومن ثم إذا ألمت مصيبة بالأسرة فإنها تنفع نحو الإفلاس والسقوط من على السلم الاجتماعي.

وللحق فإن الأميركيين كان لديهم دائما دفاع واف عن هذه الحالة البائسة في دولة متقدمة، وهي أن النظام الذي لديهم أفضل من النظام الكندي والأوروبي لأنه يقلل من الفاقد، ويدفع في اتجاه البحث العلمي الذي يواجه الأمراض والحالات المستعصية. وباختصار فإنه فيما يخص الصحة العامة فهذا النظام أفضل حالا من النظم الأخرى التي تجعل الدولة تتدخل في قرارات هي من صميم اختيارات الأفراد، وهي حالة من «الاشتراكية» غير المحمودة، والتي لا تليق بمجتمع قائم على الحرية الشخصية. وبالطبع فإن مثل هذه الحجج لم تكن مقنعة، وكانت هناك حجج أخرى تواجهها، وكان الأولون متهمين بأنهم في النهاية يجعلون أميركا عاجزة عن الوفاء بالتزاماتها إزاء الفقراء ومحدودي الدخل، وهي حالة لا يمكن التسامح معها من قبل إدارات ديمقراطية متعاقبة، آخرها إدارة باراك أوباما التي تريد وضع نظام جديد يكفل أمرين: إدخال جميع الأميركيين تحت مظلة الرعاية الصحية، ومساعدة الأسر الأقل حظا على التعامل مع الكوارث الصحية الكبرى.

ولا شك أن هناك تفاصيل أخرى، وربما كان سيكون الموضوع مثيرا لو أخذ حقه من العرض، ولكن ما يهمنا هنا، وكما يحدث دائما، هو لماذا لا تجري مثل هذه النقاشات الكبرى حول السياسات العامة في بلادنا؟ والمقصود بالسياسات العامة ليس سياسة الرعاية الصحية وحدها، وإنما كل السياسات التي تخص الشأن العام من أول تخطيط المدن والتعليم والصحة، وحتى القرارات الكبرى التي تخص حياة الناس ومعيشتهم. ومن الممكن أن تتصفح كل الصحف العربية، ومعها تشاهد وتسمع محطات تلفزيونية وإذاعية لا نهاية لعددها، وفوقها تراقب 270 ألفا من المدونات العربية على شبكة المعلومات الدولية، ولن تجد الكثير الذي يطرح أو يناقش أو يعقد حوارا حول السياسات العامة. ويمكنك مع بعض من الصبر أن تجد الكثير حول «التطبيع» مع إسرائيل، أو حجاب أو نقاب السيدات، ولكنك لن تجد اهتماما يذكر بالسياسات العامة التي هي الخبز اليومي للمجتمعات الحديثة، حيث تكون قرارات السلطة العامة مؤثرة في حياة الناس، وعندما يكون الأمر مؤثرا على حياة الناس، فلا بد أن يكون الموضوع جزءا جوهريا من الفضاء السياسي. وقد كان موضوع الرعاية الصحية يشغل الفضاء السياسي الأميركي طوال أشهر الصيف، بينما كان ذلك القادم من الشرق الأوسط يعتقد أن الأميركيين لا ينامون الليل بسبب قضايا المنطقة المزمنة.

وربما كان هذا هو بيت القصيد في أزمة «السياسة» في العالم العربي، حيث لا توجد سياسة من أي نوع في غيبة الحوار والمنافسة والتدافع حول السياسات العامة، حينما يقسم الناس إلى فرق ومصالح. فموضوع الرعاية الصحية في الولايات المتحدة، وبعيدا عن مدى جدارة الموضوع والسياسات، توجد فيه مصالح متناقضة لبشر جماعات وشركات ومؤسسات للمجتمع المدني وأطباء ومستشفيات وحتى جامعات. وكذلك سوف يكون الحال بالنسبة لسياسات مهمة أخرى هي التي تجعل للمجتمع السياسي معنى، بل والديمقراطية ممكنة؛ فلا يوجد أبدا ما يجعل السياسة «ديمقراطية» قدر انقسام الناس حول موضوعات، والتقائهم حول موضوعات أخرى، وتحالفهم حول موضوعات وقضايا ثالثة. وبهذا المعنى تتخلص السياسة من جمودها واستقطاباتها الحادة الشائعة في «السياسة» العربية ـ إذا جاز القول بأن ذلك أيضا نوع من السياسة ـ التي تجري فيها مثل هذه السلوكيات.

ولكن من يريد مجتمعات سياسية أكثر صحة، فإن أول ما عليه فعله هو فتح الباب على مصراعيه لمناقشة السياسات العامة، حيث لا يحتج أحد على ملك أو سلطان أو رئيس، وإنما يبحثون عن أفضل السياسات التي تجعلهم أكثر أمنا وسعادة!!