موريتانيا بوجه جديد

TT

ما أكبر سروري بأن أجد فرصة سانحة لأن أتحدث بكلام طيب عن بلد عربي في هذا الزمن الرديء، وأن يكون البلد قريبا إلى النفس مثل موريتانيا. كانت الأفكار مرتبكة بعض الشيء بخصوصها في الشهور الأخيرة، ولكن دون أن ينزل محرار المحبة عن مستواه الطبيعي. وها هي الأجواء تطيب بالطريقة التي لا ينتظر غيرها حينما يخلو الموريتانيون إلى أنفسهم في خيمة الحوار كالمألوف.

ومن موقع الملاحظ المشفق، كان الخاطر قد تشوش شيئا ما، فبعد أن صفقنا بحرارة لتتويج حركة 3 غشت 2005، بانتخابات حرة وشفافة أعاد بها قائد الانقلاب الأمانة إلى أهلها، إذ أعطى الكلمة للناخبين، اضطربت الأمور من جديد، ثم انفرجت الأوضاع بسرعة وعادت موريتانيا من جديد مصدرا لأخبار تبعث على الارتياح.

ولا شك أن المعطى الذي شغل الناس أكثر من غيره هو أن الحكومة الجديدة المنبثقة عن انتخابات سليمة، جاءت معبرة عن وجود هندسة حكيمة ضمنت التنوع الذي أصبح يتميز به المجتمع الموريتاني، إثنيا واجتماعيا. ويهمني أكثر من غيره، أن أبرز أن الحكومة ضمت سبع نساء، مما يغير النظرة التي قد تكون لدى غير المطلع عن حاضر موريتانيا. وهذا مكن شأنه أن يحفز البعض على تصحيح معلوماتهم عن بلد المليون شاعر. وبالمناسبة أتساءل عما إذا كان قد آن الأوان لنعدل هذا الشعار الذي أطلق على هذا البلد الشقيق في الستينيات، لدى التحاقه بالمجتمع الدولي كدولة ذات سيادة، حينما كان تعداد نفوسه يقدر بالمليون، أم أنه يجب أن ننتظر من مرصد ما أن يصحح لنا الرقم بعد أن تضاعف اليوم أربع مرات عدد السكان؟

وإذا كان تولي الموريتانيات لمناصب وزارية ليس بالأمر الجديد، إذ إنهن تقاسمن مقاعد القرار مع أشقائهن الرجال منذ 1971، فإن الجديد في حكومة السيد الأغظف هو تنوع القطاعات التي تولت النساء مسؤوليتها. وقبل الآن، باستثناء كتابة الدولة في التكنولوجيا، في سنة 2004، ومنصب مستشارة في الرئاسة الذي تولته السيدة منت مكناس في 2001، كانت المناصب التي تسند إلى النساء ترتبط بمرافق اجتماعية.

وقد أثار الانتباه كثيرا إسناد حقيبة الشؤون الخارجية والتعاون إلى السيدة الناها منت مكناس، إذ إنها بذلك أصبحت أول سيدة عربية تصل إلى هذه الرتبة الوزارية. ووقع التلميح بالمناسبة إلى مؤهلاتها العلمية، وإلى أنها تترأس منذ سنوات الحزب الذي أسسه والدها المرحوم حمدي ولد مكناس في 1991، الذي كان قيد حياته قد طبع الحضور الموريتاني في الساحة الدولية حينما كان وزيرا للخارجية على عهد المرحوم المختار ولد داداه. وبهذا فإنها إن لم تكن جديدة على السياسة، فهي ليست جديدة كذلك على العلاقات الدولية، حيث يجعلها الإرث العائلي متشبعة بما يكفي بالانشغالات الخارجية.

وبهذه الصفة، أي كمتمرسة بالملفات الدولية والإقليمية التي تهم موريتانيا والمنطقة، عرفتها بمناسبة اجتماع عقد في مدريد منذ سنوات، وهو المؤتمر الوطني للحزب الشعبي الإسباني، الذي أعلن فيه أثنار تخليه عن رئاسة الحزب وانسحابه من الشأن العام. وكان حزبها « الاتحاد من أجل الديموقراطية والتقدم» إلى جانب حزب الاستقلال الوحيدين من البلاد العربية والإسلامية المنضمين لاتحاد العالمي للوسط الديموقراطي، «وسط يمين» الذي كان يرأسه أثنار. وهو المؤتمر الذي حضرته أنجيلا ميركل تحف بها هالة «المستشارة المقبلة» في ألمانيا.

كان ذلك في سبتمبر 2003، أي منذ ست سنوات، وكنا معا، حزب من المغرب وآخر من موريتانيا، نمثل صوتا متميزا، إذ إننا في حظيرة ذلك الحشد المؤلف في غالبيته من أحزاب قادمة من إيديولوجيا ديموقراطية مسيحية، نقدم طرحا سياسيا ليبراليا متشبعا ببرنامج اجتماعي، ويهمنا تصحيح الأمور فيما يخص النقاش بين الغرب وما سواه. وكان كل منا يعبر عبر ذلك الصوت المتميز بالانطلاق من تجربته الخاصة، وكانت موريتانيا في ذلك المنتظم الذي يضم أكثر من تسعين تنظيما، من أوربا وأميركا اللاتينية وإفريقيا، تعكس وجود تعددية سياسية حقيقية، وهي صفة نادرة في العالم العربي.

كانت السيدة منت مكناس إذ ذاك رئيسة حزب، ومستشارة في رئاسة الجمهورية الموريتانية، وهو وضع لا يسلبها استقلاليتها رغم ترؤسها لتنظيم صغير. وقد تابعتها وهي تعرض أطروحتها، وسجلت أنها تبلغ أفكارها بيسر. وكان حضورها في حد ذاته ينطوي على عدة رسائل في عدة اتجاهات. فها هي ذي امرأة من مجتمع مسلم تترأس تنظيما يضم رجالا ونساء يعترف لها بالقيادة. ثم إنها قبل أن تتكلم، لا بد أن تثير الانتباه في وسط أوربي غير معتاد على تقبل التنوع، بالملحفة التي لا تغادرها. وقد راقني منها ذلك، ورأيت كيف أن المندوبين الأجانب الآخرين القادمين مثلنا من بيئات لكل منها خصوصيتها، كان عليهم أن يدركوا أن الغرب ليس هو مركز العالم.

وفي المنتديات الدولية المشابهة يكون لا مناص من تقبل فكرة التنوع في المشارب والمصالح، وبالتالي التعدد في زوايا الرؤية، وصولا إلى التسليم بأن التعايش في حظيرة المجتمع الدولي يتطلب تقبل ذينك التنوع والتعدد، والبحث عن القواسم المشتركة التي تؤمن التعايش في ظل الاحترام المتبادل، وفي ظل توصل كل طرف إلى تحقيق مآربه الخاصة دون تعارض ـ على قدر الإمكان ـ مع باقي المصالح.

والتنوع في المصالح يعني بطبيعة الحال التنوع في الأفكار. وبتقبل وجود أفكار مختلفة، وحتى متعارضة، ينشأ تمرين شيق وشاق، يخوضه المرء وهو منغمر في ممارسة «العلاقات الدولية». وهذا يتطلب وجود مؤهلات، والتماس طرق ناجعة، وإعداد مخططات مدروسة، لأنه لا شيء يأتي بالصدفة، كما أنه لا شيء يتحقق دون مراعاة ميزان القوى.

وفي السنوات الست التي مرت على التقائنا العابر في مدريد، في أثناء مؤتمر الحزب الشعبي الإسباني الذي كان حشدا دوليا مكثفا، مرت مياه غزيرة تحت الجسر. وكان على السيدة منت مكناس أن تتخذ وهي على رأس حزبها المعارض حينا، والمشارك حينا، قرارات تتعلق بسياسات داخلية وخارجية لبلدها. وقد أيدت دائما السلوك المتبصر الذي التزمت به حكومات موريتانيا المتوالية حيال المسائل الجوهرية في المنطقة والعالم. وهو سلوك مستمر لأن السياسة الخارجية لا تخترع، ولا تخضع لأمزجة الأشخاص، بل هي مزج ديناميكي لمصلحة البلد ومعتقداته. ورأينا حزب الاتحاد من أجل الديموقراطية والتقدم باستمرار في الموقع الملائم لمصلحة موريتانيا والتزاماتها. وهذا ما ينسجم مع مصلحة الشعب الموريتاني، حالا واستقبالا.

وحينما كان على هذا الحزب أن يعبر علانية عن مواقفه إزاء القرارات التي اتخذها السيد محمد ولد عبد العزيز سجلنا أنها أيدت تجميد العلاقات مع إسرائيل، ودعمت من زاوية رؤية حزبها المواقف السياسية والاقتصادية للمجلس العسكري، وخصوصا اتجاهه إلى إرساء النظام الديموقراطي، الأمر الذي تم تتويجه بتشكيل هذه الحكومة المنبثقة من صناديق الاقتراع.

إن صفحة جديدة من تاريخ موريتانيا تفتح الآن. وتتراءى عدة مؤشرات تنبئ بأن المسار الحالي سيصب في توطيد الاستقرار، وفي تجنيب البلد العودة إلى مواقف مرهقة، هي في غنى عنها.

إن موريتانيا مستقرة ومعبأة من أجل بناء التنمية، والعدل هو ما يحتاجه المغرب العربي، وهو ما ينسجم مع الدور الذي لا بد أن تنهض به كحلقة وصل بين العالم العربي وإفريقيا الغربية.