الافتتاحية الأخرى

TT

كان ونستون تشرشل يقول إنه تعلم الكثير من الدروس التاريخية من خلال الرسوم الكاريكاتورية، ضاحكة أو قاسية. وقال إنه عندما كان تلميذا في برايطون، كان ورفاقه يُعطَون مجلدات قديمة من مجلة «بانش» يراجعونها. وكانت «بانش» تصور رئيس الوزراء، غلادستون، على أنه شبيه يوليوس قيصر: «غلادستون المحترم، الرائع، العملاق، والخيِّر. هل هكذا إذن كان يوليوس قيصر؟ رجلا طيبا عظيما ورائعا؟ لا. قرأت فيما بعد أن حياته الخاصة كانت فضيحة، وأنه كان مغامرا ملعونا. وأن أي فيكتوري محترم لم يكن يسامحه على أي من سيئاته».

حرب القرم، يقول تشرشل، درسها من خلال الرسوم، في زمن كانت لا تزال الكاميرا الساكنة أو المتحركة لم تنزل إلى ساحات المعارك بعد. أتذكر كم كانت رسوم محمود كحيل تدوّن لنا التاريخ بعقل سياسي ساخر ولكنْ خالٍ من المكر أو الخبث. ريشة صريحة، دقيقة، تشبه مناظير الغواصات التي تلاحق دائما الأعماق. كانت له طاقة على أن يرى نفس الأشياء التي نراها، بنظرة أكثر حدة ودراية.

ما هو الكاريكاتور؟ لسنا نحن من يحدده. كما أن الكتابة هي الكاتب والشعر هو الشاعر، الكاريكاتور هو الرسام. لم تكن ريشة كحيل مبدعة إلى درجة خارقة لكن عقله كان مبدعا إلى درجة مذهلة. ولم يكن يتوقع منك أن تضحك، بل أن تتذكر. كنا نعتقد أنه يحفر بالريشة، في حين أنه كان في الحقيقة يحفر في عقولنا كل يوم. ولم يكن هناك كاريكاتور عادي من دون حفر في أي يوم.

يختلف بيار صادق، رسام «النهار» وأستاذ الكاريكاتور في لبنان منذ نصف قرن، بأنه يطلب منك دائما أن تضحك معه. نادرا ما يكون الرسم قاسيا وقاتما معا. وتصل ريشة صادق في نقل الملامح إلى أبعد ما كانت تصل إليه ريشة كحيل. وقد بقي في ذاكرة اللبنانيين من ملامح الشخصيات السياسية ما أبرزه صادق من قراءة لطباعهم: سمنة شارل حلو الفرحة أبدا، وابتسامة سليمان فرنجية التي تثير الخوف، وابتسامة كمال جنبلاط المتعالية والمكافحة للابتسام، وحيوية ريمون إده وتصلب سليم الحص واستشاطة ميشال عون. في مراحل كثيرة، كانت رسوم صادق في الصفحة الأخيرة تتمة لافتتاحية الصفحة الأولى. ولم يكن من شك بأن قارئ «النهار»، عندما يدفع ثمنها، يكون في حسابه أن جزءا كبيرا هو لقاء الضحكة، وأحيانا القهقهة، التي يبدأ فيها نهاره مع بيار صادق. وكان تشرشل يقول، يكفي كيف كان الرسامون يرمزون إلى ألمانيا بامرأة سمينة بشعة وإلى فرنسا بامرأة جميلة. الأولى تقول للثانية «أعطيني قلعتك من أجل أمني» والجميلة تقول: «ولا حجر».