الجهل بالخرائط

TT

قرأت جغرافيا هذا العالم على الطريقة التي علَّم بها المربي العربي الأول درويش المقدادي تلاميذه. فقد كتب الدكتور نقولا زيادة في مذكراته أن صاحب مدرسة المقدادي في القدس، كان يقول لتلامذته في نهاية كل عام دراسي، من يريد منكم أن يعرف أمته فليلحق بي. ثم يتقدم اليافعين سيرا على الأقدام إلى حمص وحلب وبيروت وبغداد.

جبت بعض نواحي الأرض بالقطارات والسيارات وأرخص الأسعار لأنه لم يكن في مقدوري سوى اندفاع الشباب وحميته. وتعرفت إلى المدن والقرى والبلدان والعمران عن كثب وفي حماس وحميمية. كنت أشعر أن لبنان الصغير ضيق على أحلامي، ولم أكن أعرف يومها أن روسيا، أكبر بلدان الأرض، كانت ضيقة على مخيلة ألكسندر بوشكين، الذي أراد السفر إلى أي مكان. ولست شاعر روسيا، ولا سيد الشعر في فرنسا، لكن أرتور رامبو جاب بعض الأرض على قدميه، بسبب فقره، فيما كانت لبوشكين فرسه وبغاله.

ولم تتعد نتيجة أسفاري وأغواري الانطباعات العاجلة، في حين حوَّل العلامة حمد الجاسر الجغرافيا الشخصية إلى علم وإرث وكِبر. لكي يؤرخ الجزيرة، مشيا مشاها. وقد أحببت هذا الرجل وأكبرته وقدَّرته وأعجبت بسيرته وبتركته. وإذا ما سئلت يوما عن مواقع سيرتي، فلن أنسى القول إن شعورا طافحا بالرهبة والفرح خامرني وأنا أحاضر في منزل حمد الجاسر.

كانت مشكلتي، ولا تزال، أنني لا أعرف كيف أقرأ خريطة على الورق. وعندما ترسل إليّ بطاقة دعوة إلى مكان، وقد أرفقت بالخريطة إليه، لا أكبد النفس حتى نظرة واحدة إليها. فالتاكسي يعرف ولسائقه أن يقرأ خرائط الشوارع. لكن خطر لي أمس، وأنا أقرأ في أثر إدوارد غيبون الشهير «انحسار وسقوط روما» أن أتأمل في بعض الخرائط المرفقة. يا للعجب إذا كانت روما تبدو في هذه العظمة على الورق فكيف كانت تبدو يوم كانت حاضنة الأرض والحضارات والتواريخ وأكثر الشعوب تقدما.

ونحن دائما نبكي انهيار الأندلس وننعى ملوك الطوائف، ولكن هكذا تماما انهارت روما من قبل. بأسماء أخرى. هكذا كان الحاكم الصغير يعطي نفسه اللقب الكبير. وكان هناك دائما من يهمس في أذن القيصر «تذكر أنك بشر». لكن الهامس كان يخطئ في اختيار الأذن. والرجل. والقيصر الصغير لا يتذكر. فقط القياصرة العظماء أدركوا أنهم بشر.