عودة يهودية مقابل «العودة» الفلسطينية!

TT

دعت قبل فترة نشرة غير معروفة، صدر منها عدد واحد في أربيل الكردستانية، الإسرائيليين إلى المجيء إلى كردستان العراق والمؤكد أن بعض الفضائيات، مع أن تساؤلات كثيرة قد أثيرت حول هذه النشرة وحول دعوتها هذه، التبست عليها الأمور فتناولت هذه المسألة وتعاملت معها استناداً إلى خلفية قديمة حيث كانت منظمة التحرير الفلسطينية قد دعت اليهود في وقت مبكر يعود إلى النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي إلى العودة إلى أوطانهم الأصلية في بعض الدول العربية.

إن تلك الدعوة القديمة، التي تصلح لهذه المرحلة حيث المؤكد أن حق العودة سيكون بنداً رئيسياً على جدول أعمال عملية السلام وفقاً للقرار الدولي رقم 194، تختلف عن دعوة هذه المجلة التي لم يصدر منها إلا عدد واحد والتي انطلقت من أرضية فيها الكثير من التملق للإسرائيليين والكثير من التحامل على العرب وعلى حكومة كردستان العراقية.

في سنوات عقد سبعينات القرن الماضي كان الحديث وقتها عن إيجاد تسوية للقضية الفلسطينية قد اتخذ مساراً جدياً في ضوء ما ترتب على حرب أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973 وصولاً لتوقيع اتفاقيات كامب ديفيد المعروفة بين مصر وإسرائيل وكان الإسرائيليون قد طرحوا، مقابل مطالبة العرب والفلسطينيين بضرورة تطبيق القرار الدولي رقم 194 الذي ينص على حق العودة والتعويض للاجئين الفلسطينيين، أن يجري التعويض أيضاً على اليهود الذين هاجروا من بعض الدول العربية إلى دولة إسرائيل تحت ضغط بعض التصرفات الحمقاء والطائشة واستجابة لمخططات وألاعيب ومناورات الحركة الصهيونية.

ولذلك ولمواجهة هذه اللعبة الإسرائيلية، التي من المؤكد أن الإسرائيليين سيعودون للعبها مرة أخرى لدى إثارة قضية اللاجئين الفلسطينيين عندما ستُستأنف عملية السلام التي من المفترض أن تشهد انطلاقة قريبة جديدة، فقد طرحت منظمة التحرير في ذلك الوقت المبكر أنه كما أن للفلسطينيين الحق في العودة إلى وطنهم الذي هُجِّروا منه وغادروه بالقوة فإنه من حق اليهود الذين أصبحوا إسرائيليين أيضاً أن يعودوا إلى الدول العربية التي هاجروا أو هُجِّروا منها بغض النظر عن الطرق التي استخدمت لمثل هذه الهجرة أو هذا التهجير.

كان الرئيس الفلسطيني الحالي محمود عباس (أبو مازن) هو صاحب هذه الفكرة التي ووجهت بالمزيد من الاستغراب والاستهجان في البدايات حتى داخل الأطر الرسمية الفلسطينية والتي ما لبثت أن تم تبنيها من قبل منظمة التحرير وبعض فصائلها وأصبحت سياسة أوصلها الفلسطينيون إلى كل الهيئات الدولية المعنية وما لبثت أن أصبحت موقفاً معتمداً من قبل معظم الدول العربية ومن بينها العراق حتى في ذروة حكم حزب البعث.

لقد اعتبرت هذه الدعوة، أي دعوة اليهود للعودة إلى الدول العربية التي هاجروا منها، من قبل معظم دول العالم ردّاً فلسطينياً وعربياً معقولاً ومقبولاً على المطالبة الإسرائيلية بالتعويض على هؤلاء اليهود الذين تركوا العراق واليمن ولبنان وسوريا والمملكة المغربية وباقي دول المغرب العربي وهاجروا إلى إسرائيل وحقيقة أن فكرة ضرورة الاعتراف للاجئين الفلسطينيين بحق العودة كما اعترف العرب للمهاجرين اليهود بحق العودة إلى أوطانهم الأصلية قد حققت نجاحات ملموسة قبل أن تبتلعها الأحداث الجسام التي تلاحقت تباعاً بعد الغزو الإسرائيلي للبنان في عام 1982 والتي حولت اهتمام منظمة التحرير إلى الكثير من المستجدات التي كانت تعتبر أكثر أولوية وأكثر أهمية.

وبالطبع وكما هو عليه الوضع الآن فقد واجه المزايدون هذه الفكرة بالمزيد من الاتهامات والمزيد من الشكوك والتشكيك ولعل ما تجدر الإشارة إليه أن محمود عباس (أبو مازن) قد نال القسط الأوفر من حملة الاتهامات هذه حيث لجأ صبري البنا (أبو نضال) الذي كان قد انشق عن حركة «فتح» وأنشأ بدعم النظام العراقي السابق تنظيم (فتح – المجلس الثوري) إلى هدر دمه وحاول اغتياله بالفعل أكثر من مرة.

وهنا فإن ما تجدر الإشارة إليه أن هذه الدعوة، التي أخافت إسرائيل الرسمية وأربكتها، قد أثارت الكثير من الجدل والنقاش في أوساط جاليات اليهود الإسرائيليين الذين جاءوا من بعض الدول العربية وبخاصة يهود العراق الذين يختلفون عن غيرهم في أنهم بقوا يعيشون في بلاد الرافدين ومنها منطقة كردستان في الشمال كأهل بلاد أُصلاء وحقيقيين وأنهم كانوا بصورة عامة ينعمون ببحبوحة من العيش وبحقوق المواطنة الكاملة وهذا جعلهم يساهمون في نهضة هذه البلاد على مدى حقب التاريخ التي مرت بها من السبي البابلي الشهير على يد نبوخذ نصر وحتى قيام المملكة الفيصلية بعد الحرب العالمية الأولى وبعد انهيار الخلافة العثمانية.

والمعروف منذ وقت مبكر وحتى الآن، وهذا يعرفه فلسطينيو عام 1948 ويتحدثون به، أن اليهود العراقيين يختلفون عن اليهود الذين جاءوا من اليمن والذين جاءوا من المغرب وباقي الدول العربية في أنهم لا يحقدون لا على العرب ولا على الفلسطينيين وأنهم حافظوا على تراثهم العراقي وثقافتهم العراقية في إطار الدولة الإسرائيلية ولذلك فإن غالبية منهم قد استقبلت هذه الدعوة بارتياح كبير وأن بعضهم قد فكر جديّاً بالعودة إلى العراق والى كردستان العراقية.

وعلى هذا الصعيد فإنه يبدو ضروريّاً أن أذْكر تجربة شخصية حيث كان أبلغني وزير الشرطة الإسرائيلية الأسبق في حكومة إسحق رابين العمالية موشيه شاحال خلال لقاء مصادفة عابر في أحد مقاهي القدس أن اسم عائلته الحقيقي هو «فتَّال» وليس «شاحال» وأنه زامل العاهل العراقي السابق فيصل الثاني في مدرسة بغدادية لسبعة أعوام وأن الكثير من أبناء عائلته بعد أن حدث ما حدث قد انتقلوا من بغداد إلى لندن وأنهم يُعتبرون الآن بما يتمتعون به من ثراء وغنىً في طليعة الجالية العراقية في عاصمة الضباب وهو قال أيضاً إنه حرص حرصاً شديداً على تعليم أبنائه وبناته اللغة العربية واللهجة العراقية وأن والدته تحرص في عطلة نهايات كل أسبوع أن تطْهو للعائلة كلها المأكولات العراقية ومن بينها طبخة «الباجة» الشهيرة المعروفة.

والأهم أن موشيه شاحال أو «فتَّال» قد أبلغني أنه فاتح الرئيس مبارك بعد أن أصبح رئيساً بعد اغتيال السادات بإمكانية أن يحاول إقناع صدام حسين بالسماح له بالعودة إلى العراق وهو قال إن مفاجأته كانت بمثابة صدمة كبيرة عندما تم إبلاغه أن الرئيس المصري قد نجح في محاولته هذه وأن جواب الرئيس العراقي كان: أهلاً به في وطنه وعلى الرحب والسعة.. وأن أملاكه وأملاك عائلته ستعود إليه بمجرد عودته إلى الأرض العراقية.

وأضاف شاحال (فتَّال) وهو يتنهَّد تنهيدة تحسُّر عميقة: لكن المؤسف أنه بعد أن أعددت نفسي لهذه العودة وتغلبت على كل الاعتراضات والممانعات التي واجهتني إن من قبل بعض أفراد عائلتي وإن من قبل الحزب والدولة الإسرائيلية جاءني من يبلغني على لسان الرئيس مبارك أن صدام حسين قد تراجع عن موافقته مع وعد باستعادتها بعد انتهاء الحرب العراقية ـ الإيرانية.

إن هذا يعني أن هناك أرضية مشجعة للعودة إلى هذه الدعوة من قبل الحكومة العراقية أولاً ومن قبل الفلسطينيين والعرب بعد ذلك وحقيقة أن ما هو أكثر من مؤكد أن اليهود العراقيين الذين جاءوا إلى إسرائيل من مدن وقرى كردستان العراقية، ومن بينها مدينة «عقرة» التاريخية الواقعة على الطريق بين دهوك وأربيل التي تنتمي إليها عائلة وزير الدفاع السابق إسحق مردخاي الذي كان طلب من الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات أن يزوده بصورة لبيت عائلته في هذه المدينة، سوف يفكرون مليّاً بأن يقوموا بهجرة معاكسة إلى العراق وأن بعضهم سيعود فعلاً إلى الإقليم الكردي في شمالي العراق إذا توفَّرت الضمانات الأمنية الضرورية المطلوبة.