فراغ باريس!

TT

باريس فارغة. خلال شهري الصيف، تموز وآب، تعيش أجمل لحظات حياتك. إياك أن تتركها خلال هذه الفترة لأنها فعلا من أحلى الفترات. تشعر أحيانا بعد رحيل القوم وكأن باريس أصبحت كلها لك. أحيانا تقطع الشارع بدون أن تنظر يمينا أو شمالا. كل شيء خفيف. الهواء خفيف، الجو خفيف، السياح لا ألطف ولا أظرف. خصوصا السائحات. البشر الذين كنت تراهم كل يوم تبخروا، البشر الذين كانوا يسدون الأفق أمام عينيك غادروا. فجأة تشعر وكأنك ملك باريس أو ضواحيها.. وليذهب الشاطئ اللازوردي إلى الجحيم حتى ولو كان ساركوزي وجاك شيراك وبريجيت باردو وألان ديلون يصيفون عليه!

قال لي أحدهم: بإمكانك أن تعزي نفسك كما تشاء وتشتهي. فلو استطعت أن تكون على أجمل شاطئ في العالم لما ترددت لحظة واحدة. ولكن بالله أسألك: ألمثل هذه الدرجة تكره البشر؟ هل وجودهم يزعجك إلى مثل هذا الحد؟ هل هم جالسون على رأسك يا ترى؟ عجيب! لماذا لا تذهب إلى الغابات وتعيش لوحدك مع الوحوش؟ هناك على الأقل لا يوجد إلا العصافير والأشجار والحيوانات التي لم تنقرض بعد.. يخيل إلي أن نهايتك ستكون وخيمة..

ولكن فجأة تعيدك الأحداث إلى صميم الواقع. فإذا كانت الحركة قد توقفت في شوارع باريس فإن حركة التاريخ ذاتها لم تتوقف يا صديقي. التاريخ لم ينته بعد على عكس ما توهم فرانسيس فوكوياما الذي ضحك علينا وشغلنا بكتابه لفترة من الزمن بعد أن تسلق على ظهر هيغل ونيتشه. الرجل موهوب بدون شك. ولكن قضى عليه فيما بعد أستاذه صموئيل هانتنغتون صاحب نظرية صدام الحضارات. لا يقضي على الكتاب السابق إلا الكتاب اللاحق ولا على الحب القديم إلا الحب الجديد. قانون طبيعي. هكذا ضحك علينا المثقفون الأمريكان وشغلونا بنظرياتهم شرحا وتعليقا لعشر سنوات على الأقل بل وحتى الآن. في الماضي كان مثقفو أوروبا وبالأخص فرنسا هم الذين يشغلون العالم. قصدت سارتر، فوكو، إلخ.. وأما الآن فقد أصبحت أمريكا رائدة العالم حتى في مجال الفكر.

فجأة تشغلك قصة تلك الحسناء الفرنسية كلوتيلد ريس التي قبضوا عليها في طهران بتهمة التجسس والتحريض على المظاهرات. حلوة. وتسحرك بهذا الحجاب الملون الأنيق الذي تضعه حول وجهها فيزداد جمالا على جمال. تتعاطف معها غصبا عن أبيك لأن الجمال لا يرحم. هناك حكم ديكتاتوري لا أحد يتحدث عنه أو يشكو من عسفه وطغيانه هو: ديكتاتورية الجمال. تساءلت: لو طلبت مني هذه الآنسة ذات النظرات الغامضة أن أتظاهر ضد حالي ألن أفعل؟ فما بالك بالتظاهر ضد الملالي؟ وفي قلبك تكاد تترجى محمود أحمدي نجاد أن يطلق سراحها فورا. وبشكل تلقائي تجد نفسك تردد مع ناظم الغزالي:

قل للمليحة في الخمار الأسود

ماذا فعلت بناسك متعبد؟

أو ماذا فعلت بالمتظاهرين الإيرانيين، بالشباب المتحمسين؟

هل ساروا كلهم في المظاهرة وراءها يا ترى؟ أم هل نزلوا إلى الشارع وشاركوا فيها لمجرد أن رأوا وجهها؟ تذكرت أيضا ذلك البيت الرائع من شعرنا العربي القديم:

إذا نحن أدلجنا وأنت أمامنا

كفى لمطايانا بوجهك هاديا

وعلى الرغم من أنك لم تعد ناسكا متعبدا منذ قرون إلا أنك خاشع متعبد في محراب الجمال. والله جميل يحب الجمال. كل ما نرجوه هو أن يرأف الملالي بالقوارير أو بالظباء الغريرات! هل هم حساسون للجمال يا ترى أم أنهم يخشون المرأة وكأنها رجس من عمل الشيطان؟ إن كيدهن عظيم! أخشى أن يطبقوا عليهن الحد كما قد يفعل متزمتو السودان مع تلك الرائعة الأخرى لبنى أحمد الحسين.

يقول لنا السيد برنار هوركاد أحد أعضاء المركز القومي للبحوث العلمية الفرنسية والمختص بالشؤون الإيرانية بأن الآنسة ريس تتعرض لمحاكمة ستالينية لا أكثر ولا أقل. فلم تفعل شيئا يذكر لكي يلقوا القبض عليها في مطار طهران وهي على أهبة العودة إلى فرنسا. إنها عبارة عن كبش فداء للنظام الذي عاش لحظات صعبة أخيرا مع شعبه. وهو يريد أن يفش خلقه في الأجانب عن طريق تكرار الشعار المعروف: الغرب يتآمر للإطاحة بالجمهورية الإسلامية. ولكنها اعترفت أمام المحكمة بارتكاب بعض الأخطاء كالمشاركة في إحدى التظاهرات وأخذ بعض الصور وتقديم تقرير بصفحة واحدة عنها للسفارة الفرنسية. فهل هذا يهدد النظام الإيراني؟ وعلى أي حال فإن اعترافاتها جاءت تحت التهديد كما يظن الباحث الفرنسي. لهذا السبب فإنه ينعت المحاكمة بأنها ستالينية. ومعلوم أن ستالين كان يجبر الأبرياء على أن يتهموا أنفسهم على رؤوس الأشهاد من خلال محاكمات صورية هزلية لكي يتمكن من إعدامهم. وعلى هذا النحو تخلص من الكثير من رفاقه السابقين أو المنافسين.