«حكومة إنقاذ» المواطن من المجرمين

TT

«من لم يمت بالقصف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد».

وأخبار الصحف اللبنانية التي باتت أشبه بأجراس إنذار لا ينقطع رنينها، تؤكد للمواطنين يوميا أن المخاطر تحدق بهم من كل جانب، حتى ليبدو أن تأليف الحكومة من عدمه أمر نافل، خاصة وأن الحكومات المتعاقبة لم تفلح في أكثر من التقاتل على تقاسم الجاتو، و«تناتش» النفوذ. وفي آخر أخبار «جمعية العناية بالصحة الغذائية» أن كميات من البيض والدجاج التي لا تتوافر فيها المواصفات الصحية السليمة تسربت إلى الأسواق اللبنانية، وأن ثمة متواطئين من داخل وزارة الزراعة، شاركوا في هذه الجريمة. وقبل البيض والدجاج مرت اللحوم والأسماك وأغذية لا عد لها. وطالعتنا صحيفة منذ أيام بعنوان: «سياراتكم قنابل موقوتة» لنكتشف أن البنزين في بعض محطات الوقود، يخلط بمادة أخرى سريعة الاشتعال تسمى زيت النقطة، مما يعرض السيارة للتلف أو للانفجار، عند أصغر حادث سير، وربما من دونه.

والأخطر بحسب الصحيفة أن خلط مادة زيت النقطة الرخيص الثمن، بأنواع الوقود لجني الأرباح الطائلة، بدأ منذ السنة الماضية، وأن مفتشي وزارة الاقتصاد، ادعوا بأنهم لم يضبطوا أي مخالفة حينها، مما ترك الأمور على غاربها، واضطر جمعية حماية المستهلك للجوء إلى الجيش، في ما تحوم شبهات حول مصداقية مفتشي الوزارة. ومنذ أيام فقط، بثت إحدى المحطات التلفزيونية روبورتاجا يريك بأن السيارات، وحتى الفخمة منها التي تراها في لبنان، قد تكون توابيت أعدت كمصيدة لأرواح أصحابها، وأن العديد من السيارات هي عبارة عن قطعتين (النصف الأمامي والنصف الخلفي) لسيارتين مختلفتين تم إلصاقهما وتلحيمهما وبيعهما للمستهلك على أنهما سيارة مستوردة حديثا. واستغلال قانون استيراد السيارات المصدومة لاستخدامها كقطع غيار لم يوفر حياة النائب علي الخليل الذي توفي مع زوجته، بعد انشطار سيارتهما إلى قسمين في مشهد مريب، يترك الإنسان مذعورا مما يركب ويشرب ويؤكل، وربما حتى ما يلبس.

والفساد في لبنان، بات ملح المواطن وخبزه، وهو يطارده في المطاعم المتروكة أطعمتها غالبا لضمير أصحابها، وفي البحر الذي تتدفق فيه المجارير لتلوث العديد من شطآنه، وفي الصيدليات التي لا تعرف إن كان بائعها يناولك حبوبا من النشا أم المواد التي تغيثك من آلامك. والكلام على الفساد في مجال استيراد الدواء وبيعه مزمن، ومع ذلك معالجته مستعصية، ووصل الحد أن بات الصيادلة يغشون بعضهم بعضا. وأهلا بمليون سائح تدفقوا على لبنان حتى الآن من بداية السنة، وشكرا لـ«نيويورك تايمز» لتصنيفها بيروت كوجهة سياحية أولى لهذا العام متفوقة على واشنطن ولاس فيغاس، لا بل على 44 وجهة. لكن مبادرات الفرد اللبناني، هي التي تجعل من الوطن الصغير واحة لأهله وضيوفه، في ما تغيب المؤسسات الحكومية، وكأنها في غيبوبة لا تستفيق منها. والأنكى أن المسؤولين لا يخجلون من تحذير المواطنين من تلوث هنا أو غش هناك.

وكأنما بمقدور المستهلك أن يفحص البيض قبل أن يأكله أو يميز نوعية البنزين قبل أن يسمم به سيارته. وأيا يكن الأمر، فإن الإعلان عن 500 إصابة بإنفلونزا الخنازير لا تشغل اللبنانيين، كونها أسهل الموجود، أما الخوف فهو مما يتم التكتم عليه. وسادت لبنان هذا الصيف حالات كثيرة من المغص والقيء، التي لم يعلمنا أي أحد عن سبب تفشيها، حتى كثر الكلام عن تلوث في المياه، أو تأثيرات في الجو من حرب عام 2006 الإسرائيلية القذرة على لبنان. ونحن هنا لا نريد أن نرسم صورة متشائمة عن بلد، يجمع كل المستمتعين بحيويته، وجمال طبيعته وطقسه هذا الصيف، أنه متعة للعيش، لكننا نحزن كما الأم التي ترى في ابنها كل المؤهلات التي تجعله نموذجا للنجاح في ما هو مثابر على التردي، مصرّ على التقهقر. صحيح أن مليارات الدولارات تنفق على بناء المنتجعات والفنادق كما المطاعم، في ما الطائرات الخاصة، باتت تغط في لبنان ولو لليلة لإرضاء شهوات أصحابها بأجواء من الصعب إيجادها أحيانا حتى في عواصم عالمية.

لكن هذا كله يذهب هباء إن لم تكن الحكومة المقبلة، حكومة إنقاذ من الفساد المستشري، والذي بات أقوى من الوزراء في أحيان كثيرة. فالفوضى تعم وتتمدد، وكل ما هو مسؤولية الدولة، أصبح موضع شك وتساؤل، من الكهرباء التي لا تزور بعض المناطق إلا لساعات قليلة مرورا بالمياه التي يخشى السكان استعمالها، وصولا إلى المستشفيات والخدمات الصحية وحتى الجامعة الرسمية. وهكذا بات قدر اللبناني الاعتماد على النفس، والمؤسسات الخاصة التي تنحرف هي الأخرى حين تعرف أن لا رقيب ولا حسيب. فأمر المشافي السائبة التي تحولت إلى دكاكين تجارية تجري الفحوصات لمجرد الربح، وتنصح بالعمليات الجراحية في سبيل الكسب، بات شائعا. ونحن كمواطنين، لا نعرف ما هو جزاء المخالفين الذين يخلطون البنزين بمواد قاتلة، أو ما كان عقاب بائع دواء مزور أو حتى صاحب شركة مياه يفترض أنها معدنية، تبين أنها تبيع مياه الصنابير العادية؟ وهل أخلي سبيل هؤلاء بفضل وساطة الزعيم أم نالوا ما يستحقون من عقاب؟

نفهم أن الفساد في بعض الدول العربية بلغ حدا مريعا وفظيعا. ومن حسن أو سوء حظ المواطن اللبناني، أن الوسائل الإعلامية، تفضح وتجرح، وتنشر الأسماء والوقائع. فالفساد في بلاد الأرز منشور على الحبال والأسطح، لكن هذا يدمي القلب أكثر مما يشفي الغليل. إذ إن المسؤول الذي يريد أن يعمل، أمامه فيض من المعلومات، لكنه يقرر التعامي والتغاضي، وهو ما يجعل المواطن يعتقد محقا، في كثير من الأحيان، أن وجود الحكومة من عدمها، يكاد يكون سواء.