اقتصاد التطرف واقتصاد الأوهام

TT

في الصباح الباكر ليوم الثلاثاء الماضي (18/8) حاولت مجموعة من السجناء بسجن رومية - وهي قرية في منطقة المتن الشمالي بلبنان تحت مدينة برمانا ـ الفرار من السجن. وينتمي أفراد المجموعة تلك إلى التنظيم المعروف بتنظيم «فتح الإسلام»، الذي استولى على مخيم نهر البارد، واصطدم مع الجيش اللبناني في ربيع وصيف عام 2007 وعلى مدى ثلاثة أشهر. وقد استطاع الأمنيون اللبنانيون الإمساك بسبعة من الهاربين، في حين تمكن الثامن واسمه طه أحمد حاجي سليمان ـ من التابعية السورية - من الهرب (وقبض عليه في اليوم الثاني). وقبل الحادث بأربعة أيام اصطدم متطرفون إسلاميون في غزة بقوات حماس، ويتزعم تنظيمهم عبد اللطيف موسى الآتي أيضا مثل أكثر عناصر تنظيمه وتنظيم فتح الإسلام، من سورية. وقد سقط من الطرفين كما ذكرت وسائل الإعلام زهاء العشرين قتيلا، إلى عشرات الجرحى والمقبوض عليهم. وإذا أضفنا لذلك آلاف الشبان المتطرفيـن الذين مضوا إلى العراق بين عامي 2003 و2008 من سورية وقبـل أبي مصعب الزرقاوي ومعه وبعده، والآخرين الذين قاموا بتفجيرات بالأردن قادمين من سورية، أو اشتبكوا مع قوات الأمن السورية بداخل سورية أو على الحدود مع لبنان؛ يتبين لنا أن السنوات الأربع التالية للغزو الأميركي للعراق، تحولت خلالها سورية إلى بؤرة لتجميع المتطرفين الإسلاميين، تارة بحجة المضي للجهاد بالعراق، وطورا بحجة الجهاد في فلسطين.

وسورية مثل لبنان ليست ذات دور؛ بل هي ذات وظيفة، والوظيفة بطبيعتها مؤقتة وإن بدت متطاولة حتى يكاد المنخرطون فيها يعتبرونها دورا. وقد بدأ عهد سورية قبل الأخير بالوظيفة في السبعينات، حينما كان هناك تكليف ذو شقين: الشق المتعلق بضـبط الحركة الوطنية اللبنانيـة، والمقاومة الفلسطينيـة العاملـة من لبنان، والشق المتعلق بوراثة الدور المصري بعد انكفاء مصر في اتفاقية كامب ديفيد، واتجاه العراق لمصارعة إيران في وظيفة أيضا ظنها صدام حسين دورا تاريخيا اقتنصه للعراق وللأمة العربية!

في ذلك العقد الخطير الممتد من 1979 إلى 1989 بل وإلى ما بعد ذلك، كانت سورية تجمع «المجانين» العاملين تحت اسم القوميات أو اليسار للقيام بأعمال رنانة تتراوح بين الدعاية والإرهاب؛ ومن ضمنها ليس مجانين فلسطين- خارج ياسر عرفات- وحسب؛ بل ومسميات مثل جيش التحرير الأرمني وحزب العمال الكردستاني، فتضبط تحركاتهم فيما يتجاوز الصراخ. وعند الإصرار والاضطرار فقد تَعمدُ لبيع بعضهم مثلما حدث لزعيم حزب العمال الكردستاني، أو لبعض الأطراف الفلسطينية. ويكون الثمن لتلك الوظيفة المهيبة باسم القومية العربية والممانعة للإمبريالية، استمرار التكليف بلبنان، واستقرار النظام بسورية. ومن «أوراق» تلك الوظيفة أو أقواها دعم المقاومة الإسلامية المنطلقة من لبنان، بعد تخلص ياسر عرفات من الحصارين الإسرائيلي والسوري بالهرب إلى القاهرة فتونس. ويمكن القول إن هذه المرحلة من التوظيف انتهت بخروج إسرائيل من الجنوب عام 2000 ووفاة الرئيس حافظ الأسد.

وكان عنوان المرحلة الجديدة أيام بوش الابن: إنهاء الوظيفة والتكليف لسورية، والاتجاه للمصادمة والهجوم على أعداء الولايات المتحدة بالمنطقة- والذين انحصروا بالتطرف الإسلامي- دونما حاجة لوسيط أو ضابط ومستوعب. لقد صار عنوان المرحلة الجديدة لدى الأميركيين بالمشرق العربي: مكافحة التطرف، وإرغام النظام السوري على تغيير سلوكه. ما هدد الأميركيون ولا الإسرائيليون وجودَ النظام للحظةٍ واحدة، فهم يعرفون ضرورته في توازنات المنطقة بعد إذلال صدام حسين. لكنهم أرادوا منه التخلي عن وصايته على لبنان، وإيقاف دعمه لحزب الله، والتعاون في مكافحة الإرهاب. لكن النظام شعر بخطر شديد نتيجةَ غزو الأميركيين للعراق، وتحرك جهات لبنانية ضد وجوده. ولذلك انصرف إلى استقبال آلاف الشبان القادمين للقتال بالعراق ضد الأميركيين وأعوانهم، كما انصرف إلى مكافحة المعترضين على وجوده بلبنان؛ في الوقت الذي انكفأ فيه حزب الله بعض الشيء وانصرف لتجميع الطائفة الشيعية، والاستقلال التدريجي عن سورية. وكما سبق القول فإن الأعوام الأربعة بين 2004 و2008 شهدت تحول سورية إلى بؤرة للتطرف المستوعَب والمنظم ضد الأميركيين بالعراق أولا وصولا إلى الدخول في التفاصيل الطائفية هناك، وضد السلطات في الدول العربية المجاورة الأُخرى ومنها الأردن ولبنان والسعودية، بحيث ساءت علاقات النظام السوري بكل تلك الدول. وكان المأمول من وراء استخدام التطرف الإسلامي هذه المرة: عودة الاتصالات والتنسيقات مع الولايات المتحدة إلى سالف عهدها. وإرغام الدول العربية المحيطة على الاعتراف بالقوة السورية والتنفذ السوري. وإذا كان عنوان التطرف الإسلامي في مواجهة الأميركيين وحلفائهم بالعراق معلنا؛ فإن وسائل الإعلام والأخبار والشائعات الأمنية ركّزت على أن المتطرفين الإسلاميين هم الذين يعيثون فسادا في لبنان؛ بما في ذلك قتل الرئيس الحريري، والشهداء الآخرين من السياسيين والإعلاميين والمثقفين. وقد بلغ التحدي ذروته بين إيران وسورية من جهة، والولايات المتحدة وحلفائها بالمنطقة من جهة ثانية في العامين 2006 و2007، حيث تصاعدت العمليات الانتحارية بالعراق، وحدثت حرب تموز، وجرت التفجيرات بالأردن، وانفجرت أحداث «فتح الإسلام» بلبنان، وتلت ذلك أحداث الحصار لرئاسة الحكومة اللبنانية، وإقفال البرلمان، فاحتلال بيروت من جانب حزب الله وحلفاء سورية.

ومع أن الضربات كانت متبادلة؛ بمعنى أن الزرقاوي قتل، وظهرت الصحوات، ودمرت القوى الأمنية تنظيم فتح الإسلام بلبنان، وأوقف الأردن بالقوة التفجيرات على أرضه، وضرب السعوديون القاعدة بقسوة، ومن بين عناصرها أولئك العائدون من العراق مباشرة أو عبر سورية، وضرب الأميركيون على الحدود السورية وبداخلها، كما ضرب الإسرائيليون بداخل سورية بحجةٍ أُخرى؛ فإن النظام السوري بدا قادرا أخيرا على الإفادة النسبية من خضات السنوات الأربع التي عمل خلالها لصالحه ولصالح إيران.

إن «اقتصاد التطرف» الذي اعتمدت عليه سورية طوال نحو خمس سنوات، والذي اعتبره خصومها العرب والأجانب اقتصاد إجرامٍ وأَوهام، تظهر له الآن ثمرات وإن تكن مُرة ومأساوية. فالمتطرفون الذين جمعتهم سورية من أجل استخدامهم، ما عاد ضبطهم ممكنا على الدوام. وهذا ما ثبت في غزة مع عبد اللطيف موسى، الذي عمل ضد حماس حليفة النظامين السوري والإيراني. ثم إن السوريين مضطرون - أو مرحبون - الآن بعقد اتفاقية أمنية مع الأميركيين والعراقيين على ضبط حدودهم مع العراق. والمعروف أن للأميركيين حاليا بالمنطقة أولويتين.. الأُولى: إزالة التحدي النووي الإيراني، والثانية: التصرف الآخر في المجال الفلسطيني ـ الإسرائيلي. وقد تكون سورية مفيدة في الأمرين؛ وبخاصة أن لديها أراضي محتلة من جانب إسرائيل، ولا مهرب من التعامل مع مطالبها إن أُريد حل المشكل الذي أوجده الوجود الإسرائيلي والاحتلال الإسرائيلي.

هل ينجو النظام السوري من آثار المرحلة الماضية، نتيجة الحاجة إليه في المرحلة الحالية؟ للنجاة مفهومان: بقاء النظام، أو نجاح النظام في التحول إلى نظام طبيعي وشرعيٍ ونامٍ ومتقدم. والذي أحسبه أن النظام قادر بما استجد من حاجات إليه على البقاء والاستقرار، أما الهدف الآخر فهو بعيد المنال وله أحابيل وتمايزات، كتلك القائمة بين اقتصاد التطرف واقتصاد الأوهام!