التوترات العرقية في العراق حقيقة ماثلة تتطلب حلا

TT

هناك في العراق، خصوصا في المناطق المتنازع عليها بين العرب والأكراد والتركمان والمسيحيين، كركوك ونينوى وديالى، حالة أمنية وسياسية وثقافية بالغة التعقيد والاضطراب. مصادر هذه الحالة وعواملها الأساسية تتمثل في سياق من التوترات العرقية لا يني يشهد مزيدا من التفاقم والتعقيد مع استمرار الحكومة العراقية الراهنة في مطّها وتجاهل حقائقها وتجنب إيجاد حلول سلمية ودستورية لأسبابها. أهم الإشارات في هذا الخصوص جاءت من خلال تزايد أعمال العنف والتفجيرات الإرهابية في نينوى وكركوك خلال الأسابيع القليلة الماضية.

صحيح لا تزال التوترات في طور الاحتقان والتفاعل، بل إنها لم تشهد، على الأقل حتى الوقت الراهن، انفجارات دموية على نطاق واسع سوى تفجيرات متفرقة. لكن الأصح أن حقيقة وجودها وتفاقمها السريع، على الأقل لمن يعيش داخل العراق ويتلمس نيرانها الخفية، أمر ماثل للعيان ولا يمكن للتحليلات السطحية والرؤية الضيقة، أو محاولة إخفائها تحت لافتات «الحرص الوطني المشترك» و«التاريخ النضالي الطويل بين العرب والأكراد»، أن تزيل انعكاساتها عن الأعين.

الأرجح أن القوات الأميركية التي تستعد للرحيل بشكل نهائي عن الأراضي العراقية، نهاية عام 2011، أحسّت بخطورة تلك الحالة، ولا جدوى للكلام الجاري عن التقليل من حجمها أو محاولة أطراف في إطار العملية السياسية العراقية إخفاءها وتأجيل انفجارها إلى مرحلة ما بعد الانسحاب الأميركي. لهذا سارعت الإدارة الأميركية إلى ممارسة ضغوط سياسية ودبلوماسية على بغداد بغية دفعها إلى إيلاء اهتمام كافٍ بملف العلاقات العربية الكردية المتأزمة والعمل على حل المشكلات الخاصة بالمصالحة الوطنية قبل موعد انسحاب الجنود الأميركيين من الأراضي العراقية.

في الإطار ذاته، سارع القائد الميداني للقوات الأميركية في العراق الجنرال راي أديرنو، إلى تأكيد أنه قدّم اقتراحا إلى الطرفين العراقي والكردي لاستحصال موافقتهما على إدخال تعديل على الاتفاقية الأمنية بين العراق وأميركا ينصّ على نشر دوريات أميركية عراقية كردية مشتركة في المناطق المتنازع عليها في فترة الانسحاب الأميركي من المدن. معروف أن الهدف من الدوريات المشتركة هو التضييق على احتمال نشوء مواجهات عرقية بين المكوّنات السكانية لتلك المناطق قد تفوق في دمويتها ومخاطرها أعمال عنف طائفية انزلق إليها العراق خلال عامي 2006 و2007.

في المنحى ذاته، ضاعفت بعثة الأمم المتحدة في العراق (يونامي) جهودها لإقناع بغداد وأربيل بالإسراع في حل خلافاتهما عبر الدستور، بعد إدخال بعض التغييرات الطفيفة على بنودها المتعلقة بالمناطق المتنازع عليها. ومعروف أن الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون أكد دعوته هذه في رسالة وجهها إلى العراقيين قبل أسبوع.

وقد يصح التأكيد على أن القوى التي تغذي التوترات العرقية في العراق بمزيد من الحطب هي نفسها التي غذت التوترات الطائفية، أي تنظيم القاعدة الإرهابي والشوفينيين من مختلف الأطياف المذهبية والقومية، إضافة إلى أعداء الديمقراطية والتعددية في العراق، وفي مقدمتها بعض الدول الإقليمية.

إلى هذا يصح التأكيد على أن الأواصر التاريخية المشتركة بين العرب والأكراد قد تفيد في تأجيل انفجارها بعض الوقت، لكن كلا العاملين أعلاه لا يمكنهما إخفاء أسبابها الحقيقية التي لا تزال فاعلة على الأرض: سياسات التطهير العرقي بحق المكوّنات الكردية والتركمانية والمسيحية في كركوك ونينوى وديالى في فترة النظام السابق، وأخرى تتعلق بسلب أراضٍ وقرى ومنازل وحقول زراعية وممتلكات، إضافة إلى مساعٍ لمحق الهوية القومية للأكراد في تلك المناطق.

ثم التلكؤ في تطبيق المادة 140 الدستورية الخاصة بحل معضلة المناطق المتنازع عليها وفق ثلاث مراحل: التطبيع والإحصاء والاستفتاء.

خلاصة القول، هناك توترات عرقية فادحة الأضرار والنتائج بين الأهليين في المناطق المتنازع عليها. المصلحة الوطنية العراقية العليا تتطلب الإقرار بها والعمل على تفكيك صواعقها عبر حوار سياسي معمّق من جهة، واللجوء إلى الدستور لحلها من جهة ثانية. أما التقليل من شأنها والاستمرار في إخفائها والتغطية على حقائقها والتماطل في تنشيط حلولها، فالأكيد أنه لن يفضي سوى إلى صبّ مزيد من الزيت على نيرانها الخفيّة.