الإرهابيون يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا

TT

الخطايا والكبائر والجرائم أنواع، من أبشعها وأقبحها: جريمة (الصد عن سبيل الله)، وهي أنواع أيضا.. وفي مقدمة جريمة الصد عن سبيل الله: التسبب في (منع الخير) الذي أمر الله تعالى بأن يقدم إلى المحتاجين: من الفقراء والمساكين والمعوزين والمكروبين والمنكوبين، ومن هنا جهرنا ـ بلا تردد ولا تحفظ ـ بتجريم فعلة 11 سبتمبر 2001 من حيث أنها كانت (ذريعة شر): ضيقت أبواب العمل الخيري، أو جففت ينابيعه.

وهذه الذريعة النكد امتدت ـ بإثمها ـ إلى مساحتنا هذه التي نكتب فيها في هذه الجريدة («الشرق الأوسط»).. فلقد عزمنا على أن نكتب سلسلة مقالات تتحرى (إحياء العمل الخيري)، مستندين في هذا العزم إلى عوامل عديدة منها:

أ) مجيء رمضان بهداه ونفحاته في العطاء والجود، فهو شهر القرآن الذي نقرأ فيه: «وافعلوا الخير لعلكم تفلحون».. «فاستبقوا الخيرات».. «وأوحينا إليهم فعل الخيرات».. وكان النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ جوادا أبدا، وكان في رمضان ـ بالذات ـ أجود بالخير من الريح المرسلة.

ب) العامل الثاني هو: انكسار حدة الهجوم على العمل الخيري، ربما للتقادم النسبي للزمن، وربما لتغير ظروف معينة: سياسية وآيديولوجية.

ج) العامل الثالث: إن حاجة الناس إلى العمل الخيري اشتدت وتضاعفت لأسباب كثيرة: سبب تراكم الكروب والكوارث وتلاحقها.. وسبب (تناقص) ينابيع العمل الخيري في العقد الأخير.. وسبب الأزمة المالية العالمية التي باء الفقراء بمعظم ضغوطها وآثارها المنهكة المهلكة.

بينما نحن نفكر في ذلك: اقترف قوم ـ في السعودية ـ ما نحسبه (صدا عن سبيل الله) في هذا المجال، أي اقترفوا ما يثير الشك العاصف حول العمل الخيري، وكأنهم مكلفون بتقبيح وجه العمل الخيري، وتخويف الناس من المبادرة إليه!!

فشبكة الـ44 الإرهابية التي جرى القبض على أفرادها في السعودية، ارتكبت جرائم مركبة من بينها (استغلال العمل الخيري في تمويل عملياتهم المفسدة في الأرض)، وهو استغلال مزدوج: توفير التمويل من جهة، وتوفير (التمويه) من جهة أخرى، بمعنى أنهم اتخذوا من اسم هذا العمل الشريف: غطاء وستارا لتحركهم ونشاطهم المريب. إن هذا الاستغلال الشرير (جدد) الشكوك حول العمل الخيري. وهذا (صد عن سبيل الله).

صد عن سبيل الله يفرح به المتربصون ـ أبدا ـ بالعمل الخيري الإسلامي، أولئك الذين يختلقون التهم اختلاقا، فكيف إذا وجدوا من المسلمين من يقدم لهم القرائن والحيثيات؟!

وصد عن سبيل الله بالتسبب في حرمان المحتاجين والمكروبين من العطاء الخيري.. وويل لأقوام يتسببون في حرمان الفقراء والمساكين واليتامى والأرامل والمشردين مما هم في أشد الحاجة إليه.

والعبرة من ذلك كله: وضع العمل الخيري تحت الضوء الساطع، لاستنقاذه من أيدي السفهاء، ولحمايته من الاستغلال والغفلة والاستغفال والالتواء والانحراف.. ومن صور هذه الحماية: كف كل مشبوه عن التسلل إلى هذا الميدان.. ورفع درجة الوعي لدى المحسنين بالاستيثاق من الوجه الذي تتوجه إليه أموالهم بحيث يتعذر أن يستغفلهم أحد ـ مهما كانت صورته الدينية زاهيةـ .. إن الذمة لا تبرأ بمجرد دفع المال، بل لا بد من المعرفة اليقينية بحقيقة: كيف ينفق المال؟ وإلى أين يذهب؟ ولا بد من المعرفة اليقينية ـ قبل ذلك ـ بالجهة التي يعطى لها المال، فلا يعطى المال لمن تحوم حوله شبهة غلو أو تطرف، أو انتماء حزبي، أو غموض في شخصه، وتعقيد في تصرفاته، أو نعومة ظاهرة تخفي توحشا.

يقال إن دوائر غربية معروفة استغلت أحداثا معينة لمطاردة العمل الخيري الإسلامي.. ولسنا نجادل في ذلك، فالعداوات الآيديولوجية والسياسية للإسلام والمسلمين لا تزال موجودة، بيد أن الأعداء وجدوا في سلوك بعض المسلمين ما حقق أهدافهم، وهو ما يمكن تسميته (العمالة بالأهداف)، أي أن هؤلاء المسلمين الأغبياء (وهذا أخف وصف) إنما هم عملاء من حيث خدمتهم لأهداف قوم شانئين.. وبالعودة إلى (منهج نقد الذات) نقول: إن الإرهابيين هم أكبر مشوه للعمل الخيري الإسلامي: «وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم».

على أن جريمة تشويه العمل الخيري هي ـ على قبحها ـ جزء من جريمة أكبر وأبشع يقترفها الإرهابيون وهي (جريمة تشويه الإسلام نفسه)، فقد قدموا لأعداء الإسلام خدمة مجانية كبرى: لم يحلموا بها.. ففي العقود الأخيرة تألقت الكرة الأرضية بظاهرة واضحة جدا وهي إقبال الناس ـ من كل جنس وبيئة ـ على الإسلام عن طريق (الاقتناع الحر) الباحث عن ملاذ عقلاني إيماني، وعن منهج يوصلهم إلى الله جل ثناؤه.. هذه الظاهرة روعت مؤسسات كبيرة في عالمنا هذا، وهي مؤسسات حاولت ـ بوسائل شتى ـ أن تكبت هذه الظاهرة، أو ـ على الأقل ـ تحد من انتشارها، ولكنها محاولات منيت بالفشل.. ثم جاء (الفرج)!! لهذه المؤسسات على يد مسلمين اقترفوا الفظائع المدوية: متبجحين بأن هذه الفظائع إنما هي (جهاد إسلامي) أمر به دين الإسلام!!.. هنالك وجدت تلك المؤسسات المعادية فرصتها التاريخية فرسمت ـ من ثم ـ خططا فكرية وسياسية وآيديولوجية وإعلامية لتشويه صورة الإسلام، وصد الناس عنه، مستمدة مادة حملتها من أفعال أولئك الغلاة الإرهابيين الذين يدعون تمثيل الإسلام. فالوقائع على الأرض في كثير من وسائل الإعلام والتثقيف ومراكز البحث والدراسة تشهد بأن تلك الأفعال الشريرة الملصقة بالإسلام قد اتخذت (ذريعة) لتشويه صورة الإسلام على نطاق عالمي، وتشويه الإسلام بمثل: الإسلام دين عدواني.. ودين إرهاب وترويع.. ودين غدر.. ودين تدمير للمدنية والعمران إلخ إلخ، وهذه كلها مقولات شريرة منقوضة بالإسلام الحق: دين السلام والأمن والوفاء بالعهود والدعوة إلى عمران الأرض وعدم الإفساد فيها، بيد أن الإرهابيين المسلمين ـ بفعلهم القبيح ـ أعانوا خصوم الإسلام على النيل منه.

إنها فتنة طامة باشرها أحلاس العنف من المسلمين، فعمت بشرورها المسلمين أجمعين، بل انعكست على الإسلام ذاته.. وهذه الفتنة محادة لله ـ سبحانه ـ الذي قال: «واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة».. وصدق ربنا عز وجل، فالفتنة تعدت الظالمين الذين باشروها إلى الأمة كلها.. يقول ابن العربي ـ في تفسير هذه الآية ـ: «واتقوا فتنة تتعدى الظالم فتصيب الصالح والطالح». ومن هنا كان السكوت أو الكلام الخجول عمن يبتدر فتنة تضر بالإسلام والمسلمين نوعا من التعاون على الإثم والعدوان. والله تعالى يقول: «ولا تعاونوا على الإثم والعدوان».. يقول القرطبي ـ في تفسير هذه الآية ـ : «ويجب الإعراض عن المتعدي، وترك النصر له، ورده عما هو عليه».

ومن الضلال المبين ـ والبعيد ـ أن يتصرف أناس ينتسبون إلى الإسلام تصرفات تؤدي إلى الضرر بمصلحة المجتمع المسلم أو الأمة المسلمة.

لماذا؟

لأن شريعة الإسلام نزلت لتحقيق مصالح الناس والحفاظ عليها، فالله جل ثناؤه غني عن الناس.. ومن هنا استفاضت كتب الفقه ـ عند المسلمين ـ بمفاهيم اعتبار المصالح، والحرص على تحقيقها. ومن هذه القواعد ـ على سبيل المثال ـ : (يعظم الأجر بقصد المصلحة العامة).. (التصرف منوط بالمصلحة).. (الشرع لا يأمر إلا بما مصلحته خالصة أو راجحة ولا ينهى إلا عما مفسدته خالصة أو راجحة).. ومما لا ريب فيه أن من يهدر هذه المصالح بتصرفاته: إما جاهل أو سفيه أو أحمق أو عميل، وإن صلى وصام وحج وزعم أنه مسلم وداعية إلى الإسلام!! فالله تقدس في علاه لا ينظر إلى الصور والأشكال، ولكن ينظر إلى القلوب الطاهرة والأعمال الصالحة، وكأين من إنسان ذي صورة معجبة، وهو لا يساوي عند الله هباءة!!