كله عند العرب صابون

TT

عشية الانتخابات الرئاسية في أفغانستان طلبت حكومة الرئيس حميد قرضائي من الصحافة «عدم نشر أو بث الهجمات الإرهابية» المتوقعة وتبريرها عدم إثارة الفزع بين الناس فيحجمون عن التصويت وهو الغرض الأساسي لحركة الطالبان الإرهابية.

منطقيا، قد يبدو الطلب معقولا. فانتحاري باعه الملا محمد عمر الحزام الناسف كتذكرة دخوله قاعة حوريات الجنة اللاتي يتضاعف عددهن بازدياد ضحايا «استشهاده»؛ سيحدث دويا في أحد شوارع كابول التي لن تلاحظ بقية أحيائها الأمر؛ لكن بث التلفزيون لصور رجال الإسعاف ينقلون ضحايا ينزفون سيفزع المشاهدين بطول أفغانستان وعرضها.

صحافيا، مطلب الحكومة جنون رفضه المراسلون الغربيون، بلا استثناء، ومعهم أقلية من صحافيي أفغانستان بينما تاه زملاؤهم بين المشاعر العاطفية بتغليب استجابتهم لما يسمونه بالحس الوطني (الذي لا يوفر لهم دخلا) وبين التوازن العقلاني بالتزام واجب المهنة (التي تطعم أسرهم)، وهم معذورون لغياب تاريخ تراكمي من خبرات الصحافة الحرة في بلد بلا مؤسسات.

وحالتي لا تختلف عن زملاء المهنة، فلا يكاد يمر شهر في خبرتي الصحافية الممتدة لأربعة عقود من دون مواجهة خيارات تتطلب اتخاذ قرار في جزء من الثانية: هل يتدخل الصحافي لمنع مكروه، أم يظل محايدا؟

عندما تطورت حرب صدام حسين على إيران إلى استهدافه ناقلات البترول الإيراني عام 1983، ورد الإيرانيون باستهداف ناقلات تحمل بترول بلدان عربية من حلفاء بريطانيا التاريخيين؛ فبدأت البحرية الملكية «دوريات أرميلا» بإرسال مدمرة وفرقاطتين. وعلى مدى 24 ساعة تواجدت سفينة أو أكثر من البحرية الملكية ترفع علم بريطانيا في مضيق هرمز تقطع الطريق بين ناقلات البترول وبين بطاريات صواريخ سيلك ـ وورم الإيرانية؛ مما يعني أن مغامرة الإيرانيين بإطلاق النار على ناقلة تحمل بترول بلد عربي ستدخلهم في حرب مع بريطانيا وبالتالي في حرب مع حلف شمال الأطلسي.

الخطة ذكية هادئة نجحت في حماية تدفق بترول بلدان مجلس التعاون الخليجي لخمس سنوات من دون إطلاق رصاصة واحدة.

في الأيام الأولى من «أرميلا» اصطحبنا ضابط من البحرية الملكية في جولة. وهمس بأدب جم فيما يشبه التوسل طلب منا، كل على حدة، تأجيل نشر الأخبار مع الوعد بأن نكون أول من يحصل على الـ exclusive، ولم يذكر القبطان، وكان بيننا صداقة حميمة، أي شيء عن الواجب الوطني أو الولاء للتاج، تاركا الأمر «لتقديري الشخصي» حسب قوله. كنا أربعة صحافيين بريطانيين فقط في المنطقة، وكلنا ننتمي للمدرسة الكلاسيكية الصحافية القديمة، فشاركنا بعضنا البعض المعلومات في اتفاق جنتلمان بتأجيل النشر.

ونشر كل منا، بأسلوبه ومصادره وصوره الخاصة، التحقيق عام 1987 عندما وصل الأسطول الأميركي بالصخب والضجيج لحماية الناقلات الكويتية بعد أن سبقهم الروس (السوفييت آنذاك) برفع المنجل والمطرقة فوق ثلاث منها؛ وقارنت وقتها نجاح دهاء الانجليز الهادئ بضجيج الأميركان الفارغ الذي تحول إلى مهزلة باحتماء المدمرات الأميركية وراء الناقلة بدلا من حمايتها عندما انفجر لغم، لأن الناقلة لا يغرقها انفجار لغم واحد.

ولو كانت البحرية الملكية أرسلت مذكرة للصحيفة تطلب عدم النشر «لمصلحة الوطن»، لضربت بها عرض الحائط ونشرت الخبر قبلها بثلاث سنوات.

فتراكم تجمع الاجتهادات الشخصية أصبح التقاليد المهنية، غير المكتوبة التي تنظم تلقائيا عمل كل صحيفة روتينيا، كقاعدة متينة تضمن حرية واستقلال السلطة الرابعة في بريطانيا التي لا يوجد فيها قانون واحد لتنظيم الصحافة.

أما بلدان وزارات الإعلام وقوانين تنظيم الصحافة فلم أصادف فيها تقاليد مهنية ثابتة، وتندر فيها الاجتهادات الفردية ولا استقلالية تضرب عرض الحائط بفرمانات أو فتاوى يصدرها الحاكم أو المؤسسة الدينية «لحماية المصلحة الوطنية» أو «حماية أخلاقيات المجتمع».

المرجع الوحيد المكتوب في شارع الصحافة الانجليزي هو style-book الخاص بكل صحيفة جمع اجتهادات وتراكمات خبرة صحافييها للاستخدام اللغوي (البي بي سي editorial guidelines) تصبح أسلوبا تعود عليه القارئ. مثلا هناك صحف لا تستخدم من الألقاب غير السيد Mr.، فلا دكتور أو بروفيسير، وأول ذكر للشخص اسمه الكامل دون ألقاب (كعادل درويش) وعند التكرار يصبح السيد فلان (السيد درويش Mr Darwish) مهما كانت مؤهلاته.

بينما تجد صحفا بالعربية في بلد واحد ـ وأحيانا الصحيفة نفسها ـ مرة تقرأ «الدكتور عمرو موسى» ومرة «السيد عمر موسى» ومما يزيد الاختلاط أن كلمة «السيد» هي اسم بالعربية (كحسين السيد مؤلف الأغاني) أي أن قوانين تنظيم الصحافة لم تفلح في إيجاد أسلوب صحافي يسهل إيصال المعلومة للقارئ، وهذا بدوره يثير الشكوك حول الهدف الأصلي من القوانين.

وقد تنقلت مراسلا، وكاتبا، ومحرر ديسك بين جميع صحف انجلترا (باستثناء الغارديان)، وطبعا يختلف الأسلوب التعبيري (لأن طبقية المجتمع تفرق صحف المثقفين عن صحف الطبقة العاملة) بينما يتطابق المظهر الكتابي publishing style وعند إرسال الموضوع يلتزم sub-editors «سكرتيرو التحرير المراجعون»، بالمظهر الكتابي كي يفهم القارئ المقصود.

فما بين العلامتين «كلام منقول حرفيا عن مصدر»، وليس كلام الكاتب؛ أما الأقواس المربعة [بكلمات] داخل علامتي «الكلام المنقول..» فيعني استكمالا لقواعد اللغة أو كلمة سقطت مع الالتزام بحرفية الأقوال والمثال على ذلك «رأيته [المتهم بالقتل] يغرس السكين في ظهر الضحية» فالمراجع وضع كلمتي [المتهم بالقتل] داخل علامتي الوصف الحرفي لشاهد الحادث. والصحف الأميركية والاسكتلندية تستخدم [الكلام داخل القوس المربع] لإضافة معلومات من وكالات الأنباء.

أما الكلام بين علامتي الشرطة ـ فهو جملة اعتراضية ـ أي وضعها الكاتب للتبرير المنطقي؛ والأقواس العادية (فهي للشرح بمعلومة إضافية).

الكتابة بحروف مائلة تعرف بـitalic اسم الصحيفة أو زميلاتها أو اسم بغير اللغة الانجليزية (باستثناء أسماء الأشخاص).

المظهر الكتابي لا يتغير بين صحيفة وأخرى، وللوهلة الأولى يدرك القارئ ما كتبه الصحافي، والرأي المنقول عن الآخرين. ورغم التزامي بهذا المظهر الكتابي الثابت فإن سكرتارية التحرير في الصحف العربية تضع كل العلامات المتفق عليها في خلاط عصير الفاكهة، فيختلط الحابل بالنابل لدرجة أنني ككاتب المقال أجد صعوبة في فهمه عند قراءته منشورا، إذ ينسب رأي لشخص آخر، ورأيه بدوره يصبح معلومة تاريخية مما يستفز القراء؛ ويبدو أن كل العلامات «عند الصحافيين العرب صابون»، إذا سمحت لي سكرتارية التحرير بالاجتهاد الساخر في عبارة «كله عند العرب صابون»، مع وضعها بين علامات الكلام المنقول لأنني لست صاحب القول الشهير المجهول المؤلف.