سعيد من كانت هوايته مهنته

TT

هناك مثل واقعي جدا يقول: سعيد من كانت هوايته مهنته.

وقد ثبت ميدانيا (واستبيانيا) أنه إذا استطاع الإنسان أن يزاول عملا يحبه فإن احتمال تعبه من القيام به لا يتعدى (واحدا إلى عشرة)، حتى لو اشتغل في اليوم 20 ساعة.

وأكثر المبدعين في أعمالهم وتخصصاتهم هم من درسوها ومارسوها عن اقتناع ورغبة وهواية، ومن وجهة نظري المحدودة فإنني أحترم الخراز والإسكافي الذي يصلح الأحذية ويلمعها، والذي امتهن هذه الشغلة عن قناعة ونجح فيها، أقول: إنني أحترمه أكثر من الطبيب الذي أجبر على دراسته ونال شهادته ومارس عمله في تطبيب الآخرين رغما عنه، فانعكس ذلك سلبيا على تصرفاته وأخطائه.

ومن يحب عمله فمن النادر أن يفشل فيه، وهناك مثل حي ما زال على قيد الحياة ولم يغادرها بعد، وهو رجل بلغ من العمر عتيا، ولكن ما زالت لديه جذوة وطاقة الشباب، ورغم أنه أصبح اليوم يملك (المليارات) فإن حياته هي هي من أول ما بدأ إلى الآن لم تتغير، يصحو مع أذان الفجر، وينام بعد صلاة العشاء، ولكنه في تلك الفترة الزمنية الممتدة بينهما يتحول إلى (نحلة) لا تهدأ ولا تتوقف عن العمل والحركة والتنقل بجميع الوسائل المتاحة من شارع إلى شارع ومن بلد إلى بلد ومن دولة إلى دولة ومن قارة إلى قارة، ولو كانت لديه الاستطاعة لتنقل بين كوكب وآخر.. ورغم أنه يستطيع أن يمتلك أسطولا من الطائرات الخاصة، فإنه يستمتع بالركوب وحشر نفسه بين الناس بالدرجة السياحية في الطائرات العامة، المهم عنده هو الوصول إلى مبتغاه وهدفه.

إنني لا أعرفه، ولكن كل من عرفه يؤكد أنه (منشرح الصدر) دائما في عمله، ويتمنى لو أن اليوم كان أكثر من 24 ساعة. لم يتعلم، وهو بالكاد يقرأ ويكتب، ولكنه كرس حياته منذ نشأته لأن يكون تاجرا، وبدأ أول ما بدأ بفرشة يبسطها على الأرض يبيع عليها (الخردوات)، ثم انتقل إلى شراء أو صرف العملات، وشيئا فشيئا تعلق بمجداف الحياة ولم يتركه يفلت من يده رغم الصعاب والمخاطر والنكسات، إلى أن وصل إلى ما وصل إليه من مكانة يحسده عليها أصحاب شهادات الدكتوراه.

العبرة ليس بالمال ولكنها بالنجاح، والنجاح (غالبا) لا يتأتى إلا من محبة الإنسان لمهنته، صحيح أن هناك أناسا أثروا وتقلدوا المناصب والأعمال رغم أنهم لم يكدحوا ويتفاعلوا ويعشقوا أعمالهم، ولكن هؤلاء ليسوا بمقياس، فأكثرهم حصلوا على ذلك إما بالواسطة أو الوراثة أو الخداع أو (شيّلني واشيّلك).

والإنسان المحب لمهنته هو في الغالب (متصالح مع نفسه) رغم المصاعب، وهو أيضا يستطيع أن يستمتع بوقته ويبرع ويهتم بالأشياء الصغيرة التي لا تتعارض مع عمله، بل إنها تكون دافعا وزخما يثري نفسه ووجدانه، مثلما قال (الدوس هكسلي) عن الكاتب (د. هـ. لورنس): إنه يستطيع الطهي والحياكة ورتق الجوارب وحلب البقر ولعب الورق وصيد السمك وزراعة الأزهار.. ولكنه حين يبدأ الكتابة ينسى العالم بكل ما فيه ويتحول إلى عريس في ليلة دخلته، وعروسه هي عبارة عن صفحة بيضاء ممدودة أمامه!