عسكرة السياسة في لبنان

TT

يُصنف لبنان من ضمن الدول التي تقوم على المعادلة الآتية: مجتمع قوي، ودولة ضعيفة. فالدولة في لبنان موجودة وغير موجودة معا. وإذا أرادت أن تكون فما عليها إلا أن تعسكر السياسة، أي إدخال العسكر في صلب العملية السياسية.

كانت الدولة اللبنانية قوية في حالتين عبر تاريخ لبنان الكبير. الأولى عندما تدخلت المخابرات في السياسة أيام الرئيس فؤاد شهاب وما بعده، وحتى وصول الرئيس سليمان فرنجية إلى سدة الرئاسة. فقد فكك فرنجية جهاز المخابرات لتسقط الدولة بعدها بسبب العمل العسكري الفلسطيني.

أما المرة الثانية، فكانت إبان الوصاية السورية على لبنان. في هذه المرحلة كان النظام الأمني اللبناني السوري المشترك يهيمن على كل الحياة السياسية في لبنان، من مستوى الرئاسة الأولى، وحتى آخر مختار. بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وخروج سورية من لبنان عسكريا، تدهور الوضع الأمني، وسقطت الدولة إذا صح التعبير.

تميزت المرحلة الأولى عن الثانية، في أن الأخيرة كانت أكثر دموية من الأولى.

مر لبنان بأكثر من حرب أهلية، في الأعوام 1840، 1860، 1958، 1975، وأخيرا نصف الحرب المذهبية في 7 أيار في بيروت والجبل والشمال. وبعد كل حرب، كان الحل السياسي يُفرض فرضا على اللبنانيين. وبعد كل حرب، كان المتقاتلون في الحرب الأهلية ينتقلون ومن معهم من ساحة الحرب إلى اللعبة السياسية الأمر الذي يعسكر السياسة. وبدل أن تكون الحرب وكما قال المفكر البروسي كارل فون كلوزفيتز، السياسة لكن بوسائل أخرى. قد يمكن القول في الحالة اللبنانية إن السياسة هي الحرب لكن بوسائل أخرى. وعند انتهاء كل حرب أهلية، كان الأفرقاء يضعون موقتا أسلحتهم الجاهزة في المخازن، تحضيرا للجولة المقبلة عندما يريد الخارج ذلك.

وقد يطرح هذا الأمر السؤال: كيف الوصول إلى السلطة في لبنان؟

يتميز لبنان عن غيره من دول المنطقة والعالم بأنه كان ولا يزال، البلد الأكثر عولمة في تاريخه. بكلام آخر، لبنان هو من ابتكر ظاهرة العولمة وسرعها. فمنذ الفينيقيين وحتى اليوم كان الشاطئ اللبناني المصدر الأهم للهجرة إلى العوالم الجديدة.

سبب الهجرة لم يكن حبا بالعولمة والاختلاط بالحضارات الأخرى. لا بل كان السبب دائما انسداد الأفق الاجتماعي والسياسي للمهاجر اللبناني. فكان رأس المال الفكري ـ العقلي اللبناني موجودا دائما خارج الوطن. بكلام آخر، يعتبر لبنان من أهم مصدّري العقول في العالم، فكان النجاح في الخارج، والفشل الحتمي في الداخل. فمن منا لا يعرف جبران خليل جبران؟ ومن منا لا يعرف دور المغتربين في سياسات دول أميركا اللاتينية؟

يصل المرء في لبنان إلى السلطة عبر الوسائل الآتية: عبر الإقطاع، البيروقراطية الأمنية وغيرها، عبر الحروب الأهلية، عبر المال أو عبر مزيج من هذه العوامل. يحتل وليد جنبلاط قمة الترتيب الإقطاعي فهو أمير غير متوج حسب ما كتب عنه النائب فريد الخازن. وصل الرئيس فؤاد شهاب إلى السلطة عبر موقعه قائدا للجيش، بالإضافة إلى انه من آل شهاب. وصل العماد عون إلى السلطة عبر قيادة الجيش، وبعد خوض حربي التحرير ضد سورية، والإلغاء ضد القوات اللبنانية. وصل الرئيس الحريري إلى السلطة عبر قدرته المالية الهائلة. وصل الدكتور جعجع إلى السلطة عبر سلاح الميليشيا. وأخير وليس آخرا، وصل الرئيس نبيه بري إلى السلطة بعد وراثته للإمام المغيّب موسى الصدر، وبعد مشاركته في الحرب الأهلية ضمن الاقتتال الشيعي ـ الشيعي.

إذاً، هذه هي مسارات الوصول إلى السلطة في لبنان. وإذا وصل أحد من خارج هذا المسار، فقد يكون سبب وصوله منة مِن من هو في السلطة والذي ينضوي تحت التصنيف الذي تحدثنا عنه أعلاه. فعلى سبيل المثال وصل الوزير زياد بارود إلى السلطة، بعد رغبة الرئيس سليمان الذي أراد إعطاء فرصة لنخب غير قادرة للوصول إلى السلطة، وهذا كلام قاله لي الرئيس شخصيا.

بعد انتهاء الحرب الأهلية الأخيرة التي بدأت العام 1975، حُلت الميليشيات، جُمع سلاحها الثقيل، وأُدخل مسؤولوها إلى السلطة السياسية. كما أدخل بعض عناصرها في القوى الأمنية الرسمية بهدف دمجها، لتعطي مفعولا عكسيا، أي عسكرة السياسة، أو بالأحرى ميلشتها ـ من ميليشيا ـ بعد فرض الحل السياسي على اللبنانيين، لم يضع هؤلاء آلية الخروج من ذكريات وخطب الحرب. فاستمر الحقد، واستمر القلق الداخلي، كما استمر تدخل الخارج.

تمثلت عسكرة السياسة الأحدث في تاريخ لبنان في أحداث أيار 2008. فقد بدأ الاقتتال في بيروت، الجبل والشمال بالأسلحة الثقيلة، وعبر عمليات عسكرية ذات طابع متخصص. في هذا الوقت، بقيت القوات الأمنية الرسمية على الحياد وكأنها غير معنية. بعد هذه النصف الحرب الأهلية، كان اتفاق الدوحة الذي ثبت عسكرة السياسة، كما أجل الانفجار الكبير المحتمل إلى فترة لاحقة.

يتميز لبنان بالشعار التالي: «قطعة سلاح في كل بيت» وإلا، عدم القدرة على النوم بأمان. تؤمن هذه القطعة تعبئة المرحلة ـ الوقت بين بدء الحرب الأهلية، أية حرب، وبين التسليح الكامل للأفرقاء والعودة إلى الحرب الأهلية الشاملة. فعلى سبيل المثال، بدأت الحرب الأهلية في العام 1975 بسلاح يستعمل في صيد الطيور، وبعدها في الكلاشينكوف وصولا إلى المدفع الميداني 155 ملم وبالطبع الكاتيوشا، هذا عدا القتل على الهوية.

عندما تعجز السياسة عن نقل السلطة بين رئيس وآخر، يكون الحل بقائد المؤسسة العسكرية ـ قائد الجيش. حصل هذا الأمر بعد الحرب الأهلية في العام 1958 مع الرئيس فؤاد شهاب. معه وبعده، تعسكرت السياسة. تكرر هذا الأمر مع الرئيس إميل لحود لكن برغبة سورية. معه أيضا تعسكرت السياسة لأكثر من 18 عاما. لكن لحود، كان قد أتى قائدا للجيش على أنقاض رئاسة وزارة العماد عون الذي عينه الرئيس أمين الجميل لمرحلة انتقالية بسبب تعذر انتخاب خلف له. وأخيرا وليس آخرا، كانت أحداث 7 أيار، فكان الحل مع قائد الجيش المنتصر على الإرهاب في نهر البارد كرئيس للجمهورية. حتى الآن، وبسبب التبدل الجذري في دينامية اللعبة الإقليمية، وبسبب التحولات الداخلية بعد الخروج السوري، تبدو السياسة مع أسلوب الرئيس سليمان الأقل عسكرة حتى الآن.

في الوقت الحالي، تبدو السياسة اللبنانية الأكثر عسكرة من أي وقت مضى. فبمجرد أن يدور الحديث السياسي، كل الحديث السياسي عن الاستراتيجية الدفاعية حول طاولة الحوار الوطني، فهذا أمر يعني أن الأمر يدور حول سبل تحويل الأهداف السياسية للجماعات في لبنان، إلى استراتيجية عسكرية تضمن الأهداف القومية العليا. وبسبب الخلاف السياسي الحاد، أصحبت الاستراتيجية العسكري معلقة وفي مهب الريح. ويشكل وجود المقاومة، أي حزب الله في السلطة منذ العام 1992، دليلا على تحول في الخطاب السياسي، ليصبح أكثر عسكرة. فقد لا يخلو خطاب سياسي ما من ذكر المقاومة، كما الاستراتيجية الدفاعية، سواء كان الخطاب مواليا أو معارضا. وهذا أمر ظهر جليا على طاولة الحوار عندما قدم كل فريق سياسي نظرته إلى الاستراتيجية الدفاعية في ورقة خاصة به.

يحضر حزب الله وحلفاؤه في المستويين التشريعي والتنفيذي. وهذا أمر يدل على مستوى متقدم لعسكرة السياسة. كذلك، قد لا يخلو بيان وزاري من ذكر العدو، كما ذكر المقاومة. وبذلك، يصبح السياسيون أكثر عسكرة، ليصبح العسكريون أكثر تسيسا. وإذا كان العسكر العربي قد دخل إلى السياسة عبر الانقلابات العسكرية، فإن العسكر اللبناني يدخل إلى السياسة بظروف خاصة، حروب أهلية مثلا، كما انقسام سياسي حاد وعمودي بين الأفرقاء، إذ يستحيل قيام انقلاب عسكري ناجح في لبنان بسبب التعددية المذهبية.

في الختام، وإذا كانت حال لبنان كذلك، وإذا كان محتما على السياسيين أن يتعاطوا الفكر العسكري ـ الاستراتيجي، ألا يحتم هذا الأمر تثقيفهم في الشأن العسكري؟ وهنا قد يأتي السؤال الأهم، من هو المخول بمشروع التثقيف، أهو رئيس المجلس، أو افراديا وبهمة النواب ورؤساء كتلهم؟ ومن سيتكلف بهذا الأمر؟ وهل هناك معاهد متخصصة؟ على كل، يبقى الكتاب الصديق الأوفى في هذا المجال، الأمر الذي يذكرنا بحديث دار بين الشاعر سعيد عقل والمفكر فؤاد افرام البستاني، حين أصر عقل على أن يكون لرئيس البلاد كتاب واحد كشرط للوصول إلى هذا المنصب. فما كان من البستاني وبعد بسمة ساخرة، إلا أن يقول، أنا أقبل إذا كان قد قرأ كتابا ـ بالطبع مع الاحترام الكامل لعقول الكل.

* عميد متقاعد في الجيش اللبناني وباحث أكاديمي