اسم البطل محمود

TT

ثمة غرابة في المأساة الفلسطينية هي قلة الدراميين. على نحو درامي. قضية قدمت أكبر عدد من الشهداء والأبطال وأكبر وأطول عذابات الأرض، لكن شعراءها قلة وروائييها قلة ورساميها قلة ومسرحييها قلة. ولا تفسير. كيف يمكن لقضية في مداها أن تعيش نصف قرن على محمود درويش وسميح القاسم. وذلك الشاعر الرائع محمود القيسي الذي غاب دون أن يدري به إلا قليلون. وقد كنت أتأمل بيوم تشعر الدوائر الأدبية بأعماق عطائه وتدرك جماهير النقاد مدى التجاهل، لكنه غاب مبكرا في جنازة من النفي والشعر والصمت.

إلى الآن لا تزال القصص التي كتبها غسان كنفاني هي المرجع شبه اليتيم في القصة الفلسطينية. وهناك سحر خليفة وأسلوبها الدرامي لكن رواياتها تعبر عن العصر في أي مكان، وليس بالضرورة في فلسطين. وعندما قرأت كتاب مريد البرغوتي «ولد هناك، ولدت هنا» مسلسلا، أول الأمر، في «وجهات نظر»، شعرت أن قلما فلسطينيا أخاذا قد ولد للمأساة. قلم محترف، فني، أسلوبي، بحاث، مشرق، وبسيط. لا آهات ولا تنهدات، بل شلال من التفاصيل الصغيرة المتلاحقة، التي تصوِّر يوميات هذا الشعب الجبار، الخارق، المقاوم، الأعزل، الذي يحتال على عدوه كل يوم، صابرا بأكثر مما صبر أيوب، غير شاك مثلما شكا.

يعرض لنا مريد البرغوتي بأسلوب يشبه السرد الآيرلندي المؤلم والعذب في القرن الماضي، صور الفلسطيني اليومي، وهو يعبر الحواجز ويغير الطرقات ويدور على نفسه وعلى جنود الاحتلال، من أجل أن يقطع المسافة من مكان إلى مكان. وإذ يتنقل به السائق محمود، متجنبا الطرقات المليئة بالحواجز، متوقفا عند الركاب الذين يعرفون مقدرته. محادثا المسافرين في كل الأمور، معتزا، عالي الجبين ومرتفع المعنويات. يعرض علينا مريد البرغوتي الفلسطيني الجديد. الفلسطيني الذي يريد أن يكون بطلا لا شهيدا وثابتا في أرضه كالأرض نفسها، وضاحكا في وجه الذين يريدون أن يسمعوا أنينه ويسخروا من شكواه.

سوف نرى فارقا ملحوظا بين أشخاص غسان كنفاني بُعيد النكبة، وبين أشخاص مريد البرغوتي. هنا، سوف نتعرف إلى الجيل الذي مرت به النكبة والنكسة والمستعمرات والاحتلال الجديد، وما زال واقفا. وفي حين يغني العرب للصمود في الإذاعات والكليبات، يحوّل هنا كل فاصلة من تفاصيل يومه إلى ملحمة، سواء كان سائرا في جنازة أو عائدا من عرس، أو متنقلا في سيارة ضمن خريطة مذلة من الطرق الممنوعة والمغلقة والمقطوعة، وهو يضحك، في صوت عال، من غباء المانعين.