«ون ميونيت» إسرائيلية هذه المرة

TT

من حسن حظ تل أبيب وواشنطن أن الإعلام التركي كان غارقا حتى العظم في متابعة تفاصيل المسألة الكردية العاصفة داخل تركيا خلال المناورات البحرية الثلاثية بين تركيا وإسرائيل وأميركا في شرق المتوسط وإلا لكانت وسائل الإعلام المقربة من الإسلاميين تحديدا تعاملت مع الموضوع بإسهاب مطول، وهي التي تسابقت عبر السنين لانتقاد التقارب التركي ـ الإسرائيلي الأمني والعسكري وتحميل مسؤولية ذلك إلى المؤسسة العسكرية التي تتفرد بتحديد خياراتها وتحالفاتها، فهل ما زالت هذه المقولة قائمة بعد مرور أكثر من 7 سنوات على وجود العدالة والتنمية في الحكم وبعد جملة من التغييرات والقرارات التي نظمت صلاحيات ونطاق تحرك قيادة الجيش وأجهزتها؟

ربما لا وقت عند الكتاب الإسلاميين الأتراك يضيعونه في التعامل مع مسائل سبق وكتبوا عنها أكثر من مرة دون أية فائدة تجنى فالعلاقات التركية ـ الإسرائيلية قطعت مراحل بعيدة ولا تراجع ولو قيد أنملة عن مشروع التقارب والتعاون العسكري الأمني الذي وضعت أسسه قبل 13 عاما رغم الكثير من الهبات والخضات والأخذ والرد، وهم يكتفون بما قالوه لنا قبل أشهر في دافوس حول درجة التباعد التركي ـ الإسرائيلي والضربة القاضية الملحقة بتل أبيب التي لن تستفيق من صدمتها هذه وتخرج منها بهذه السهولة وحديثهم عن انقطاع خيط العلاقات الذي تأكد لنا أنه حبل متين لا يتضرر بمثل هذه السهولة.

وحده إعلام حزب السعادة المعارض المحسوب على نجم الدين أربكان هو الذي كتب عن هذه المناورات منتقدا أهدافها وتوقيتها اللافت وسط الظروف الإقليمية الصعبة التي تمر بها المنطقة والسياسة الإسرائيلية القمعية التصعيدية في الأراضي الفلسطينية المحتلة التي ترفع شعارات المزيد من التهويد والإبعاد وامحاء الهويات. تدريبات مشتركة لصد الهجمات الإرهابية ومد يد العون للإنقاذ والانتشال تأخذ مكانها بدل انتقادات لاذعة لوحشية الهجمات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة ومسارعة مد يد العون لإنقاذ المصابين من المدنيين الفلسطينيين. ما قيل لنا في دافوس حول العدوانية والوحشية الإسرائيلية في الحرب على غزة هو في غاية الأهمية والصواب، لكن ترجمته الأخيرة في شرق المتوسط يتركنا في حيرة من أمرنا أمام هذه الازدواجية وهذا التباين في القول والفعل.

قبل أشهر كنا نكتب في تركيا عن استخدام قنابل «دايم» ضد السكان والأهالي في غزة، أما اليوم فنحن نردد أن «ون ميونيت» الإسرائيلية الهادفة لإنقاذ وطمأنة «حورية البحر العاشرة» التي لم نتعرف إلى هويتها حتى الساعة جاءت مؤلمة.

مناورات بقدر ما حاولت حكومة العدالة والتنمية تجاهلها وعدم الحديث عنها بقدر ما أصر الإعلام الإسرائيلي على إبرازها والترويج لها، مذكرا أنه رغم كونها مناورات في عداد الروتينية بين الدول الثلاث فإنها في جميع الأحوال مناورات أكدت أن حادثة دافوس وذيولها قد ولت إلى غير رجعة وأنها كانت مجرد غيمة عابرة في ملف العلاقات التركية الإسرائيلية الذي أعد بصبر وعناية. تل أبيب تتمسك باعتبار انتكاسة دافوس أزمة سرعان ما تم تجاوزها وأنه رغم حالة الفتور والجمود في العلاقات فإن الأسس الصلبة التي تم إنشاء هذه العلاقات على أساسها لم ولن تتأثر أمام هزات خفيفة من هذا النوع. كان حزب العدالة على حق عندما هاجم إسرائيل وحربها العدوانية على غزة لكنه ومن خلال مراجعة بسيطة لاستراتيجياته الإقليمية وتحركات الوساطة ونقل الرسائل وإطلاق المبادرات الذاتية نجد أنه متمسك بتل أبيب ولن يتخلى عنها بمثل هذه السهولة ضمن معادلات الربح والخسارة التي يبني عليها سياسته الخارجية الجديدة.

ونحن هنا نكتفي بإحالتكم على رون بن يشاعي المعلق العسكري في «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية ليوجز لنا القراءة الإسرائيلية لهذه المناورات البحرية «عندما تلتقي أهم القوى الإقليمية مثل تركيا وإسرائيل حول تعاون عسكري ثنائي وتكون الولايات المتحدة الأميركية تدعم هذا التعاون وتشارك فيه مباشرة، فهذا يعني أنه من حق الكثيرين الاستفسار والقلق أمام ما يدور» وعلى عكس ما يقال لنا في أنقرة التي وصفت المناورات بأنها لا تحمل أي طابع عدائي أو استفزازي أو تحريضي ضد أحد.

انفعال دافوس بدأ وانتهى في دافوس وهذا ما قاله أردوغان نفسه بعد دقائق فقط من الانفجار أمام منصة الملتقىٍ.

لا تركيا قادرة على الاستمرار في دبلوماسية الوساطة والانفتاح على الجميع خصوصا في الجانب المتعلق بإسرائيل دون موافقة تل أبيب ورضاها، وهذا يعني أنها لن تفرط بسنوات طويلة من العلاقات مع إسرائيل بنتها بصبر وحذر، ولا إسرائيل قادرة على التخلي عما تحصل عليه مقابل الخدمات والتسهيلات العسكرية والأمنية والسياسية والاقتصادية التركية حتى لو كان ثمن ذلك تحمل الانتقادات والتوبيخ .

ملك الكباب باشا أوغلو في حي تقسيم من اسطنبول يتبادر إلى أبعد الحدود قبل توضيب الرغيف ولفه ووضعه بين أيدينا، وهو يعرف جيدا حالة الغضب والنرفزة التي نعيشها في داخلنا بسبب تباطئه، لكن مهنته تفرض عليه أن يكون صبورا دقيقا محترفا في ما يفعل حتى يجلبنا مرة أخرى للوقوف في الصف وانتظار دورنا من جديد.