خطوات العمة (غريس)

TT

تقول إحداهن: ذهبت إلى منزل والدي القديم المغلق منذ أعوام لتنظيفه وتجديده فيما بعد، وبينما كنت أفرغ الصناديق القديمة شاردة الذهن، أخرجت كتاباً أبيض لم يسترع انتباهي في البداية، غير أنني قرأت على الغلاف بأحرف فيكتورية مذهبة عنوان: (مذكراتي).

وعرفت خط عمة أبي (غريس) المتعرج.. وكانت سيدة مسنّة عانس فقيرة وضعيفة وغير جميلة، ومجبرة بحكم حالتها على العيش مع أقاربها.. غير أنها كانت في نفس الوقت طيبة ومرحة.. جلست على السجادة وأخذت أقرأ مذكراتها التي بدأت (1901)، وانـتهت بوفاتها (1930).

وتقول في بعض فقراتها: «مضت ثلاث سنوات منذ مقتل حبيبي تيد في هضبة سان خوان» ـ ولأول مرة أعرف أن (غريس) كان لها حبيب.

وفي فقرة أخرى تقول: «تعاستي كأس عميق لا قاع له» ـ ولأول مرة أعرف أنها كانت تعيسة ـ، ولكنها تمضي قائلة: «من الواضح أن وضعي لن يتغير، لذلك لا بد لي من أن أغير نفسي، ولن يتأتى لي ذلك إلاّ بستة أشياء: (1) عمل للغير (2) عمل لنفسي (3) عمل يحتاج لإنجاز ولا أحبه (4) تمرين جسدي (5) تمرين ذهني (6) صلاة تـتضمن القناعة والشكر».

ـ وقد ألزمت (غريس) نفسها بذلك، لأنها كتبت تقول: «عملت اليوم للغير بأن اشتريت ثلاث أقدام بقر وجعلتها تغلي مع التوابل وصنعت حساء (كوارع) وقدمته لصديق مريض، فرح به جداً.

وعملت لنفسي: بأن زينت قبعة قديمة بالأزهار وارتديتها مع وشاح أزرق ونالت إعجاب الجميع.

وعملت عملا لا أحبه بأن غسلت (36) ملاءة باليدين ونشرتها في الشمس ثم كويتها وطويتها.

ومرنت جسمي حيث لعبت (الكراكيت) وعدت للقرية سيراً بدلا من ركوب عربة الخيل.

ومرنت ذهني بأن قرأت فصلا كاملا من كتاب (لتشارلز دكينز)».

غير أن ما أدهشني أن العمة (غريس) وجدت صعوبة مع الرقم (6) وهي الصلاة، حيث تقول: «إنني لم أستطع التركيز في الكنيسة، إذ أن تفكيري كان يذهب رأساً للقبعات والملاءات والكراكيت، فخرجت واتجهت إلى صخرة مطلة على غدير وحوله المراعي وقطيع من الخراف، وانشرح صدري، وأخذني الخشوع ورحت أصلي وأدعو».

الواقع أن فلسفة العمة (غريس) دخلت مزاجي ـ وهذا الكلام لي ـ، وبحكم (ذكائي) الذي تعرفونه فقد قررت أسير وأطبق خطواتها بحذافيرها (فعلّ وعسى) أن تذهب هذه (الزغطّة) التي لها يومين وهي ملازمتني.

وأول ما بدأت به أن سألت عن شخص أعرفه وهو منوم في مستشفى، واهتديت له، وفعلا ذهبت إلى سوق شعبي واشتريت مجموعة من (الكوارع المطبوخة)، ووضعتها في (مطبقية) صغيرة، واتجهت للمستشفى، فواجهتني أول صعوبة حيث أن الزيارة كانت على وشك الانتهاء، وبشيء من الرجاء والتوسل سمح لي المسؤول بالدخول.. سلمت على المريض، وبعد ذلك كشفت بكل أريحية عن غطاء الكوارع، وكأنني أكشف له عن مجوهرات، فما كان منه إلاّ أن يسد أنفه بيده ويصيح قائلا: أبعده عني، أبعده عني لأنني سوف أستفرغ، وفعلا أغلقت المطبقية وأبعدتها، وقال لي: إنني لا أكره شيئاً في حياتي أكثر من أكلة الكوارع، وأنت أتيت بها لي اليوم متعمداً لكي (تقرفني)؟!.. اعتذرت، وخرجت بمطبقيتي، وعند باب المستشفى وجدت متسولا، وقدمت له المطبقية ودعا لي، ولا أدري هل أكلها أم قرف منها هو كذلك؟! طبعاً لم أكمل بقية خطوات العمة (غريس)، فقد زهدت بها جميعاً.