التطبيع والتحرير ومواضيع ذات صلة؟!

TT

بعضنا يؤرخ للصراع العربي ـ الإسرائيلي بستة عقود منذ نكبة فلسطين، والبعض الآخر يعود به إلى ما هو أكثر من قرن، والبعض الثالث يرجعه إلى ما قبل ذلك. ويمتد الخلاف من الماضي إلى المستقبل، فلا أحد يعرف على وجه اليقين متى ينتهي الصراع، وهناك من يراه قريبا من التسوية، وآخرون ينظرون له على أنه من «حقائق» الشرق الأوسط الثابتة، وجماعة تؤكد على أنه مستمر حتى يوم الدين. هو صراع وجود، وصراع حدود، وهو سبب البلوى وسبب الشقاء، ومصدر الاستعمار والإمبريالية والتخلف والديكتاتورية؛ وفتش ما شئت في كتب العرب وسوف تجد أمورا كثيرة معلقة في انتظار الصراع بالتسوية أو بالنصر أو بصورة ما لا نعرف لها أصلا ولا فصلا. وذات يوم كتبت أن هناك أسبابا كثيرة لكي يكره العرب إسرائيل، ولكن واحدا منها أراه مهما للغاية، فلا يفتح موضوع أو قضية في دنيا العرب إلا وكانت إسرائيل طرفا في النقاش بشكل أو آخر حتى بات مستحيلا فحص موضوع بنزاهة.

وبالنسبة لي فقد شاركت في الحرب ضد إسرائيل، وكانت البداية بالسياسة والمظاهرات منذ كنت طفلا في المدرسة نخرج لنصرة أهلنا في فلسطين والجزائر، وحتى وصلت إلى الجامعة حيث عشت «نكسة» 1967 فخرجت مطالبا بالحرب حينما كان طلبة العالم كله يطالبون بالحب. وبعد أن تطوعت في الدفاع المدني وحماية الجبهة الداخلية كنت من بين من تم تجنيدهم في القوات المسلحة حتى وصلت إلى رتبة رقيب استطلاع في وحدة مقاتلة من الصواريخ المضادة للدبابات. وشاركت في حرب 1973 ونجحت وحدتي في تدمير 54 وحدة مدرعة للعدو كان من بينها 40 دبابة، وانتهت الحرب وعدت إلى الحياة المدنية لكي أؤيد السادات في عقد السلام مع إسرائيل، ومن بعده شاركت في كل حركات وتجمعات العمل من أجل السلام أو التسوية سمها ما شئت. ومن الناحية المهنية كان الصراع موضوعا هاما للكتابة والدراسة لفهم الصراع، ومعرفة العرب، والإسرائيليين، والشرق الأوسط، وربما العالم كله. وباختصار عاش جيلنا كله في الصراع حربا وسلاما وانتقاما وتعايشا، وأصبح السؤال الذي لا يكف عن الإلحاح على عقولنا هو هل سنودع الحياة قبل أن يصل «الصراع» إلى نهاية، وهل ستجد «القضية» حلا في المستقبل المنظور؟

هذه المقدمة التي طالت أكثر مما ينبغي كانت ضرورية لأن هناك «لحظة» جديدة في الصراع، ولنسمها لحظة باراك أوباما حيث يوجد رئيس جديد للولايات المتحدة يعتقد أولا في إمكانية حل الصدام الأبدي بين العرب والإسرائيليين، وكأن ذلك ليس فيه من الجنون مسا كافيا، فإنه يرى إمكانية تحقيق ذلك في المستقبل المنظور وخلال عامين. والحقيقة أن ترشيح وانتخاب باراك أوباما نفسه كانت فكرة مجنونة في حد ذاتها، ولكن ما يمكن تحقيقه بالجنون في الولايات المتحدة ليس من الأمور التي يمكن تحقيقها بسهولة في الشرق الأوسط حيث تستعصي القضايا العاقلة على الفهم والتعامل.

ومع ذلك فإن اللحظة قائمة، ودخل الرجل إلى عش الدبابير بطرح العمل من أجل اتفاقيات سلام وليس «عملية سلام»، وحتى تكون الأمور مستساغة فقد رأى أن يقدم كل طرف أمرا ما للطرف الآخر، كنوع من إبداء حسن النية، أو لتلطيف الأجواء، أو لإعطاء قاعدة شعبية لعملية التسوية، أو لكل هذه الأسباب مجتمعة، وكان المطلوب من إسرائيل وقف الاستيطان، ومن العرب القيام ببعض مبادرات «التطبيع». قامت القيامة في إسرائيل، وكان ذلك مفهوما وإلا لكانت كل أوصافنا لها كدولة استعمارية استيطانية عدوانية لا معنى لها، وكان وجود حكومة يمينية متعصبة لا أساس له.

ولكن غير المفهوم هو القيامة التي قامت في العالم العربي حيث تراوحت حجج الرفض ما بين رفض التسوية من الأصل، وحتى حجة عمرو موسى الشهيرة «لا تطبيع بالمجان»، وما بين هذا وذاك جرى الطرح المعروف أن «التطبيع» هو ورقة العرب الأخيرة، التي لو فقدوها لفقدوا ليس فقط أعز ما يملكون، ولكن معها ورقة التوت التي بها يتسترون، فما دام لا يوجد تطبيع فإن النضال والكفاح مستمران.

المعضلة في هذه الحجج ليس جدارتها القانونية أو السياسية أو حتى المهنية الخاصة بالتفاوض والمساومة، ولكن مشكلتها أنها تتجاهل تماما أن الأراضي العربية محتلة، وأن طبيعة هذه الأراضي تتغير كل يوم.

وهكذا فإن بقاء الأمر على ما هو عليه يعني استمرار التآكل في القضية الفلسطينية ليس فقط لأن العالم لم يعد مهتما بها، أو لأن إسرائيل تقضم كل يوم من الأرض الفلسطينية قطعة تقيم عليها حياة، وإنما لأن الفلسطينيين أنفسهم أصبحوا كيانات وأحزاب منفصلة، ومنهم من ترك الأرض طوعا لكي يعيش في ديار آمنة. الأهم في الموضوع كله هو أننا لم نفهم أبدا أهمية ولا قدرة ورقة «التطبيع» هذه، فعندما ذهب الرئيس السادات إلى القدس في أكثر درجات التطبيع قوة لكي يتحدث في الكنيست الإسرائيلي، فإنه من الناحية التفاوضية والتساومية البحتة ازداد قوة وقدرة على استخلاص الأراضي المصرية المحتلة. وبالطبع فإنه لا يوجد من يطالب بأن يفعل أحد ما فعله السادات لأن مثل هذه الأفعال يكون تأثيرها لمرة واحدة، ولكن التجربة المصرية تقول لنا إن التطبيع متعدد الأشكال والمراحل، وهو ليس رقة واحدة ولكنه مجموعات كاملة من الأوراق التي لها بداية وليس لها نهاية. ولكن الأهم من الأوراق فإنها تحمل في ثناياها درجات مختلفة من الدفء والبرودة، وقد أقامت مصر سلاما باردا ودافئا مع إسرائيل، وما بين هذا وذاك، المهم في الموضوع أن القضية لم تكن أبدا تطبيعا أو لا تطبيع، إنما ما هو دور التطبيع في عملية التحرير للأراضي المحتلة، وما هو دور التطبيع في كسب الأنصار والحلفاء؟

أعرف أنه في مثل هذه المناقشة من الصراحة ما يوجع، ولكن أسوأ ما نقوم به هو انقسام العرب بين من يطبع ومن لا يطبع، من يطبع في السر ومن يطبع في العلن. التطبيع هو عملية سياسية ودبلوماسية واقتصادية لا تحدث في الفراغ. ورغم أنها كانت من أوراق العرب القوية، ولكننا أفقدناها بعضا من قوتها عندما صارت جزءا من عملية التنازع العربي الداخلية، وفي الوقت الراهن فإن للورقة قيمة مع باراك أوباما، وقيمة مع إسرائيل لأن فيها بعضا من إعطاء الشرعية، والأهم من ذلك كله أن لها قيمة في عملية تحرير الأراضي الفلسطينية ووقف الاستيطان. وإذا كان استئناف المفاوضات، والعودة إلى مائدة التسوية رهنا بإشارات هنا وهناك فلا يوجد في التطبيع ما لا يمكن منحه أو منعه، وفي كل الأحوال فإن كل المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية، والسورية ـ الإسرائيلية، تتضمن بعدا تطبيعيا كبيرا من أول التبادل الدبلوماسي وحتى التعاون الأمني.

وفي النهاية فإن للتطبيع بعدا آخر، حيث يعد أحد وجهي المبادرة العربية للسلام، ولا يوجد ما يمنع لكي تكون للمبادرة فاعلية من ترجمتها إلى خطوات سياسية واقتصادية معلومة، فعلى الأقل يمكن للعرب أن يبحثوا مع بعضهم البعض شكل العلاقات مع إسرائيل إذا ما امتلكت شجاعة التسوية. وربما يكون في الأمر فائدة، وهي أن الحديث عن التطبيع مع إسرائيل ربما يقودنا إلى الحديث عن التطبيع بين العرب أنفسهم، ومن يظن أن التطبيع قضية عربية ـ إسرائيلية فقط يخطئ كثيرا، لأن هناك الكثير مما يحتاج تطبيعا بين دول عربية، وبين العرب السنة والعرب الشيعة، والعرب المسلمين والعرب المسيحيين، وأحيانا فإن التطبيع مطلوب بين شمال بلاد وجنوبها، وشرقها وغربها، وبين حكام وشعوب، وبين قبائل من أنواع شتى، بل هل هناك من يقول كيف يكون «التطبيع» بين حماس وفتح.

القضية هكذا معقدة، ومن يفتح بابها سوف يجد الكثير الذي يقال، ولكن حتى لا تختلط الأمور فربما يكون «سلاح التطبيع» هو الذي سيحرر الأرض التي طال احتلالها، أم أن هناك دائما من يفضلونها محتلة؟!