إعادة توازن العلاقات مع الصين

TT

شهد الاقتصاد العالمي، على مدى عقود، انتعاشا كبيرا نتيجة لقبوله بالهيمنة الأميركية، وامتزاج مد السيولة بالشهية الأميركية للبضائع الاستهلاكية التي أرسلت بكميات ضخمة من الدولارات إلى الصين، التي أقرضتها لنا مرة أخرى من أجل المزيد من عمليات الشراء. وقبيل اندلاع الأزمة المالية أوفدت الصين عشرات الخبراء إلى الولايات المتحدة واستثمرت في المؤسسات المالية الكبرى لكي تتعلم أسرار النظام الذي بدا أنه ينتج نموا عالميا مضطردا منخفض الخطورة.

بيد أن الأزمة الاقتصادية العالمية هزت تلك الثقة، ورأى القادة الاقتصاديون الصينيون أن النظام المالي الأميركي سيعرض مدخراتهم التي امتدت على مدار عقد لمواجهة تقلبات كارثية محتملة. ولحماية قيمة استثمارات الخزانة ودعم اقتصادها القائم على الصادرات وجدت الصين نفسها مضطرة إلى استعادة سندات خزانة بما يقرب من تريليون دولار.

ويعد ذلك الشك في كل من الولايات المتحدة والصين نتيجة حتمية. لكن كلا الاقتصادين حقق نموا مذهلا بالاعتماد المتبادل على بعضهما بعضا. فللصين مصلحة في استقرار اقتصاد الولايات المتحدة. كما أن لها مصلحة أيضا في خفض اعتمادها على القرارات الأميركية. لكن ارتفاع التضخم وسعر صرف الدولار الأميركي اللذين تحولا إلى كوابيس للصين كما هو الحال بالنسبة للولايات المتحدة، أوجب على الدولتين حتمية تنسيق السياسات الاقتصادية. ولأنها أكبر دائن للولايات المتحدة تحظى الصين بقدر من النفوذ الاقتصادي غير المسبوق في التجربة الأميركية. وفي ذات الوقت توسعة نطاق القرار المستقل الموجود في التركيبة المتشككة في كلا الجانبين.

وتعكس العديد من التحركات الصينية هذا التوجه، فقد شعر المسؤولون الصينيون بمزيد من الحرية أكثر من ذي قبل في تقديم المشورة العامة والخاصة إلى الولايات المتحدة. كما بدأت الصين في عقد شراكات تجارية مع الهند وروسيا والبرازيل بعملاتهم المحلية، كما يعد مقترح محافظ البنك المركزي الصيني إيجاد عملة احتياطية بديلة أحد الأمثلة التي تؤكد هذا التوجه. غير أن تكرار هذه الأفكار في العديد من المنتديات وسعي الصين الحثيث لتحقيق مشروعها بصبر بالغ يوجب ضرورة أخذ هذه التحركات على محمل الجد. ولتجنب اتساع هذا التوجه من السياسات المعادية لا بد من تعزيز النفوذ الصيني في آلية اتخاذ القرارات بشأن الاقتصاد العالمي.

وسوف يستعيد الاقتصاد العالمي عافيته ما إن يزداد استهلاك الصين ويقل الاستهلاك الأميركي. ولكن لأن الدولتين تطبقان هذه النصيحة فسوف تغير، من دون تأكيد، إطار العمل السياسي. فسوف يعمل تراجع الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة وتحول الصين إلى المزيد من الاستهلاك، وزيادة الإنفاق على البنية التحتية، على ظهور نظام اقتصادي مختلف، حيث ستكون الصين أقل اعتمادا على السوق الأميركية، فيما سيزيد اعتماد الدول المجاورة على السوق الصينية من النفوذ السياسي الصيني، ومن ثم فإن وجود تعاون سياسي لصياغة نظام عالمي جديد يجب أن يعادل التحولات في نماذج التجارة.

لن يكون التعريف التعاوني لمستقبل بعيد الأمد سهلا. فمن الناحية التاريخية، كانت الصين والولايات المتحدة على الدوام قوى ساعية إلى السيطرة، قادرة على وضع أجنداتها الخاصة بصورة أحادية، وكانتا غير معتادتين على الدخول في تحالفات وثيقة أو إجراءات تشاورية تحد من حرية أدائهما على أساس المساواة. وعندما تحالفت الدولتان كانتا تميلان إلى الاعتقاد بأن عصا القيادة تخصهما وأظهرتا نوعا من الهيمنة غير المفهومة في الشراكة الأميركية ـ الصينية.

ولكي تنجح هذه المساعي يجب على القادة الأميركيين مقاومة الدعاوى الداعية إلى تبني سياسة الاحتواء التي سادت زمن الحرب الباردة. كما يجب على الصين أن تعمد إلى التقليل من المخاوف بشأن محاولات فرض الهيمنة الأميركية والسعي لتشكيل تكتل آسيوي. كما يجب على الدولتين عدم تكرار ذات الخطأ الذي حول بريطانيا وألمانيا، منذ قرن مضى، من حالة صداقة إلى حالة مواجهة استنزفت كلا المجتمعين في حرب عالمية. وسيكون الضحايا لهذا التطور قضايا عالمية مثل الطاقة والبيئة والانتشار النووي والتغير المناخي الذي سيتطلب رؤية مشتركة للمستقبل.

من ناحية أخرى، يرى البعض أن على الولايات المتحدة والصين تكوين مجموعة الاثنين. وعلى الرغم من أنها ستكون منظمة عالمية أميركية ـ صينية حاكمة فإنها لن تكون في صالح كلا البلدين أو العالم، فالدول التي ستشعر أنها تم استثناؤها من هذا التحالف ربما تلجأ إلى سياسة التأميم في لحظة معينة تتطلب رؤية عالمية موحدة.

وقد تمثل الإسهام الأميركي الكبير تجاه الاقتصاد العالمي في الخمسينات في تولي قيادة تطوير مجموعة من المؤسسات التي يمكن من خلالها لمنطقة الأطلسي التعامل مع الاضطرابات غير المتوقعة. وقد وجدت تلك المنطقة التي مزقتها الخصومات الوطنية آليات لتوحيد مستقبلها المشترك. وعلى الرغم من أن كل تلك الإجراءات لم تعمل بصورة جيدة فإن النتيجة تمثلت في نشأة نظام عالمي أكثر اعتدالا.

ويتطلب القرن الحادي والعشرون بنية مؤسسية ملائمة للعصر، فالدول المطلة على المحيط الهادي يسيطر عليها إحساس قوي بالهوية الوطنية أكثر من الدول الأوروبية الناشئة من الحرب العالمية الثانية. ولذا يجب عليهم ألا ينزلقوا إلى نسخة القرن الحادي والعشرين من سياسات توازن القوة التقليدي التي ستمثل تهديدا كبيرا إذا تشكلت التكتلات المعارضة على جانبي المحيط. وفي الوقت الذي يتغير فيه ميزان الجاذبية في العلاقات الدولية باتجاه آسيا، وظهور الولايات المتحدة بدور جديد يختلف عن محاولات فرض الهيمنة يتسق مع الدور القيادي فإننا بحاجة إلى رؤية لبنية منظمة دول المحيط الهادي قائمة على التعاون المشترك بين الولايات المتحدة والصين، تتسع في الوقت نفسه لتشمل الدول الأخرى الموجودة على جانب المحيط الساعية إلى تحقيق طموحاتها.

* خدمة «تريبيون» للإعلام

خاص بـ«الشرق الأوسط»