لبنان: عودة إلى تفويض 1990؟

TT

«في سياستنا لا صداقة دائمة ولا عداوة دائمة.. بل مصلحة دائمة»

(ونستون تشرشل)

رمضان كريم..

لقد اتصلت إجازة الصيف بحلول شهر رمضان المبارك، ومعه توافرت المبررات لمزيد من التراخي الشعبي والتسلي الإعلامي بالأزمة السياسية المتطاولة في لبنان.

الأجواء الرمضانية لم تحل في الماضي، ولا تحول راهنا دون المضي قدما في التوتير الذي يجسده اليوم تعطيل تشكيل الحكومة المنتظرة، لكنها على الأقل أوحت للبعض باقتباس الصيام عن الكلام، الذي هو بالنظر لإسفاف التصريحات والخطابات الرديئة.. خطوة طيبة إلى الأمام.

غير أن فضيلة الصمت لم تعمم على امتداد الساحة السياسية اللبنانية. ولذا يواصل «الأدوات» المطلوب منهم توجيه الرسائل الكيدية أو إطلاق المواقف الاستفزازية أداء الأدوار المرسومة لهم.. مما ينكأ الجراح ويؤجل التوصل إلى الحل السياسي المأمول.

عاملان اثنان تعجز «عنتريات» هذه الأدوات عن إخفائهما: الأول، هو أنه ما كان بالإمكان مواصلة التعطيل في ظل التهديد والابتزاز ـ رغم إنجاز الاستحقاق الانتخابي ـ لولا الاستقواء بالسلاح والاعتماد عليه. والثاني، هو أن الوضع الداخلي المحتقن إلى شفا الانفجار انعكاس للتجاذب والمساومة الإقليميين. وبما أن لبنان هو إحدى الحلقات الأضعف في سلسلة النظام الإقليمي كان من الطبيعي أن ينتظر تبلور «الصفقات» والتفاهم على شموليتها وسرعتها وأثمانها.

الصفقة الأهم هي تلك المتصلة بصيغة سلام ـ يبدو حتى الآن مستحيلا ـ بين الحكومة الإسرائيلية المتطرفة وما تبقى من السلطة الفلسطينية ومن خلفها النظام السياسي العربي.

ولئن تسربت معلومات عن قرب تحقيق المبعوث الأميركي الخاص جورج ميتشل «اختراقا» من نوع ما، فإن أي اختراق أميركي قد لا يكون طويل الأجل بمعزل عما يحصل مع ملفات إقليمية أخرى، على رأسها الصراع الداخلي في إيران.. المتصل بدوره بمصير ملفها النووي وامتداداتها السياسية والطائفية والأمنية في العالم العربي.

من هذا المنطلق ينبغي على المراقب العاقل وعي الصورة الأكبر لأزمة الحكم المتطاولة في لبنان بين مد وجزر، وكر وفر.. حيث يصور بعض الأطراف نفسه كما لو كان ضابط إيقاعها، في حين أنه «أقل وأذل» من ذلك بكثير.

واقع الحال في لبنان اليوم هو، بكل بساطة، وجود خلاف على وضع البلد إزاء الصورة الإقليمية المتأزمة بين فريق يرى أن لبنان قدم أقصى ما يمكنه تقديمه من استقراره وعافيته الاقتصادية وسلامة نسيجه الاجتماعي في حلبة الصراع الإقليمي، وما عاد بمقدوره تقديم المزيد من دون تهديد وجوده. وفريق آخر ـ بعض مكوناته لا يعترف أصلا بوجوده كدولة ذات سيادة ـ لا يستطيع النظر إلى لبنان إلا كـ«ساحة» مكانية و«جولة» زمانية في صراع، بل صراعات، أكبر منه تتداخل فيها بشكل مدمر الطموحات الإمبريالية والاعتبارات المذهبية.

الفريق الأول مصدر قوته شرعية التفويض البرلماني، ولا سيما، بعد انتخابات يونيو (حزيران) الماضي. بينما مصدر قوة الفريق الثاني السلاح الذي انفرد بعد عام 1990 بـ«حق» الاحتفاظ به دون سائر الفصائل اللبنانية المسلحة بحجة المقاومة والتحرير.

في أواخر الثمانينات ومطلع التسعينات من القرن الماضي حدث تطوران مهمان بالنسبة للبنان، هما تثبيت «اتفاق الطائف» وإطلاق الإدارة الأميركية في عهد الرئيس جورج بوش «الأب» يد دمشق في الملف اللبناني لقاء التعاون السوري مع واشنطن، وتأييد دمشق حملة واشنطن لتحرير الكويت من الاحتلال العراقي.

وإبان ما بات يعرف بـ«حقبة الهيمنة (أو الوصاية) السورية» في لبنان عززت طهران حضورها في ظل «الحاضنة» السورية، وبالتنسيق مع النظام الأمني الذي بنته دمشق. وحتى السنوات الأخيرة من عمر الرئيس السوري السابق حافظ الأسد ظلت خيوط اللعبة ممسوكة من قبل العاصمتين بشيء من «التوازن» المدروس الذي أتاح لـ«حزب الله»، الذي هو التجسيد السياسي للحضور السياسي والأمني والعسكري والثقافي للحضور الإيراني في لبنان، تثبيت مواقعه والاحتكار الفعلي للسلاح وشعارات المقاومة.

غير أن «التوازن» بين الحليفين أخذ يختل بعد انتقال ملف لبنان إلى يد الدكتور بشار الأسد لدى بدء تأهيله لتولي السلطة قبل وفاة أبيه. وتأكد هذا الاختلال لمصلحة طهران بعد تولي الأسد «الابن» السلطة فعليا، وكان سوء تصرف «الحاضنة» السورية في الملف اللبناني، وصولا إلى فتح معركة تدمير لخصومها، أو حتى منتقديها، من سمات هذه المرحلة.

وشكل اغتيال الرئيس رفيق الحريري والانسحاب العسكري السوري من لبنان.. ذروة اختلال الحسابات وسوء القراءة ـ ولو على مستوى التوقيت ـ بين طهران ودمشق.. في مواجهة ما يمكن وصفه بـ«السنية السياسية» أو النظام السياسي العربي، ولا سيما، بعدما سلم جورج بوش «الابن» و«اللوبي الإسرائيلي» العراق إلى إيران تسليم اليد.

اليوم في عهد أميركي جديد ثمة غاية معلنة هي فصل دمشق عن طهران. وستشمل الانعكاسات البديهية لهذه الغاية، إذا ما تحولت إلى سياسة معتمدة، تفويضا جديدا على غرار تفويض 1990 لدمشق في لبنان.. هدفه احتواء أو استيعاب الحضور الإيراني الأقوى على حدود إسرائيل.

خلال زيارة الرئيس بشار الأسد لطهران في الأسبوع الماضي كان للإعلام الإيراني مواقف لافتة وقلقة، أهمها تذكير دمشق بالمصير المشترك والأعداء المشتركين..

فهل لا يزال في الوقت متسع أمام مزيد من الاكتشافات؟

مجددا.. رمضان كريم.