صراع على الشاشة

TT

اعتاد المسلمون في العالم العربي تحديدا مشاهدة عشرات الإعلانات الصحفية والتلفزيونية بل وحتى في الطرقات، وهي تعلم المطلعين عليها عن مسلسلات الدراما التلفزيونية بشتى أنواعها؛ تاريخية واجتماعية وفكاهية، وبكل اللهجات؛ السورية والمصرية والسعودية والخليجية والفصحى، وتزداد أعداد المسلسلات المعروضة خلال شهر رمضان بشكل ملحوظ من عام لآخر، حتى أصبحت سمة رئيسية في المواد التي تقدم في هذا الشهر. ولكن أيضا وبنفس النهم هناك حراك كبير ملحوظ على الساحة الفنية الدينية، فكم الحضور المهول للدعاة والمشايخ ومفسري الأحلام والمسلسلات ذات الطابع الديني واضح. وهناك فريق من المراقبين لهذا المشهد يحاول تضخيم وتهويل ما يحدث ويصوره بأنه يعكس الصراع على رأس وعقل وقلب المشاهد العربي «لتحديد» هويته، وحقيقة هذه لعمري مبالغة كبيرة، فكما هو موجود غث في بعض البرامج الترفيهية يوجد كذلك بعض الآراء والفتاوى ووجهات النظر الخطيرة والمدمرة والجاهلة في بعض ما يقدم على الشاشات ذات التوجه الديني. إنها لعبة مصالح واضحة، فهناك كعكة إعلامية كبيرة يتصارع عليها الكثيرون ما بين نجوم الدراما ونجوم الدعوة، فالكل يبحث عن نسب المشاهدة وحصة من ميزانيات الرعاة، والجميع يحاول تطويع التقنية المتطورة لصالح منتجه الخاص. فاليوم لم يعد «غريبا» مشاهدة القنوات الدينية المتخصصة والدراما الدينية والمسابقات وحلقات البرامج الناجحة منها توزع على أقراص «CD» و «DVD» بشكل محترف ولافت، مع عدم إغفال أن بعض نجوم الدعاة باتوا من ركائز ونجوم محطات «تدعو للرذيلة والفجور» بحسب توصيف مواقع ومنتديات وفتاوى معروفة، واستغلوا هذا الوضع لإعادة إطلاق رؤيتهم وفكرهم بأسلوب مختلف وقالب عصري. وقد أسهم بعض هؤلاء الدعاة إسهامات مهمة في إرساء الوسطية وتعزيز الفكر العقلاني المتسامح والمنفتح وسط مظاهر الغلو والتطرف، وكذلك كانت هناك إسهامات فاعلة ومؤثرة لعدد مهم من الإنتاجات الدرامية التي سلطت الضوء بنجاح على آفات التطرف والإرهاب والفساد والجهل والتعصب والتفرقة والعنصرية والعنف وغيرها من العلل ومن الأمراض الاجتماعية الفتاكة. المجتمع بحاجة لجرعات متعادلة وموزونة من النوعين، لأن النوعين لهما دور في تطوير النفس والمجتمع، بدلا من حالة العداء المستدامة بينهما. المبالغة الكبرى في العدد المعروض خلال شهر واحد قد تكون الحجة الأكبر لنقد ما يقدم في جرعة واحدة مكثفة، لأن في هذا هدرا في الإمكانيات وتشتيتا في التركيز ومضيعة للوقت. بعد سنوات من محاربة الصورة وتكفير التلفزيون وفتاوى بهدر دماء الإعلام والإعلاميين يدرك الناس أهمية وخطورة سلاح الإعلام وضرورة التعامل معه بدلا من معاداته ومحاربته (وهي حجة الضعيف والجاهل). هناك غربلة قادمة لما يعرض على الشاشات ولن يستمر الجميع بنجاح وتواصل، إذ إن البقاء حتما يجب أن يكون للأقوى وللأفضل وللمتميز، وهذه حالة لا ولن يستطيع الكثيرون قولها بجرأة وثقة اليوم. المادة الصادقة التي تم العمل على إطلاقها بإتقان وتفان ووضعت فيها نية ورسالة هدفها الصالح العام والمنفعة للناس وإرساء قيم مفيدة، حتما سيكتب لها النجاح والتألق، والعبر كثيرة المؤكدة والداعمة لذلك. ويبقى الحكم أولا وأخيرا للناس والتاريخ.

[email protected]