أيام فاتت

TT

تعاظمت أزمة المرور في شوارع بغداد، ولا سيما شارع الرشيد، الشريان الأساسي لحياة المجتمع العراقي في الخمسينات نتيجة زيادة واردات النفط وازدهار الاقتصاد العراقي مما أدى إلى كثرة السيارات الخاصة والعامة. لم يعد باستطاعة الناس المرور في الشارع في ساعات الازدحام، وهي ساعات بدء الدوام وانتهاء الدوام. اضطرت السلطة إلى منع الحيوانات والعربات التي تجرها الخيل، العرباين، من المرور في شارع الرشيد كليا. ولكن المشكلة ظلت تتعاظم بتعاظم عدد السيارات، كما هو الحال الآن، وكما هي الحالة في معظم المدن الرئيسية في العالم..

كان شارع الرشيد هو الطريق الذي يسلكه الموكب الملكي صباح كل يوم ذهابا من قصر الرحاب إلى البلاط الملكي في شارع الإمام الأعظم ثم إيابا بعد الظهر عند عودة الملك رحمه الله إلى بيته. اقتضى ذلك قطع المرور ليتمكن الموكب الملكي من المرور. بيد أن هذا الموكب كثيرا ما تأخر لشتى الأسباب فتتوقف الحركة في الشارع. وعندها تتوتر أعصاب السائقين والركاب ولا سيما في أيام الصيف المحرقة. شنو الموضوع سيد؟ يتساءل السائق أمام الشرطي فيجيبه هذا، الملك يمر.

وكما نتوقع من المواطنين العراقيين عندما تتوتر أعصابهم في أيام الحر والعرق يتصبب من جباههم، فينفجرون بالغضب والسباب والشتائم. وبالطبع تنقطع الأعمال خلال ذلك ويتأخر التلميذ عن مدرسته والموظف عن وظيفته. وصلت أخبار ذلك للبلاط الملكي. التفت الوصي على العرش، الأمير عبد الإله فسأل رئيس التشريفات الملكية السيد تحسين قدري عما يجري في البلد. وكان الملك فيصل الثاني جالسا على مكتبه يستمع. أجابه تحسين قدري بأن هناك شكوى كبيرة بين المواطنين بصدد توقف حركة المرور في شارع الرشيد في ساعات مرور الموكب الملكي. كان المعتاد أن يمر أولا شرطي على دراجتــه النارية، يشـــير بيده الى كل سائقي الســـيارات بأن يميلوا جانبا ويتوقفوا عن السير ليفسحوا الطريق لمرور سيارة الملك.

روى رئيس التشريفات هذه المشكلة التي أصبحت تضايق سائقي السيارات. تساءل الملك الشاب، ما هو الحل؟ تدارسوا الموضوع فرأوا أن بالإمكان تغيير مسار الموكب بحيث لا يمر من شارع الرشيد وإنما يسلك طريق الجسر الجديد مرورا بالمناطق المقفرة والمقابر القديمة.

غير أن السيد ياسين بياع شربات الزبيب في شار الرشيد افتقـــد مرور الملك أمام دكانه واســـتوحش غيابه. فخرج من دكانه يشكو ويتذمر. والله يا جماعة هذا مو تمــام. مو صحيـــح أبدا. ييجي يوم ويــروح يوم وما نشــوف سيارة الملك تمر من قدامنا وناخذ له سلام، ويرد لنا الســـلام. ولا نسمع صوت ماطـــورسـكلاته تفوت وتزمر بالطريق. يعني هذا شي زين؟ يعوفنا ويروح يعبر من بين المقابر؟

وكان السيد ياسين أبو الشربات مثالا للمواطن العراقي الأصيل، ابن الرافدين، الساخط والمتذمر أبدا. لا يرضيه شيء ولا يقنع بشيء ولا يمكن أن يعيش بدون أن يتذمر ويشكو.

ولكنها كانت أيام خير وفاتت.

www.kishtainiat.blogspot.com