ممنوع دخول الشعراء.. موهبة بددها الجنون!

TT

أردت أن أدخل في جو الشخصية الفريدة التي سوف أزورها. فذهبت إلى (حديقة التنهدات). وهي الحديقة التي يجلس فيها طلبة الجامعات يتأوهون ويتنهدون ولا يذاكرون. وفي الحديقة تمثال للشاعر الذي سخر منه الطلبة.. فأقام الطلبة له تمثالا فيه كل العيوب الفنية في الشكل والحجم.. لقد تكامل نقصا!

وقبلها بأيام كنت في مدينة البندقية ومررت تحت (جسر التنهدات) وهو الجسر الذي يمر فوقه المحكوم عليهم بالإعدام فيلفظون آخر أنفاسهم وهم ينظرون إلى بحيرات البندقية الجميلة..

وذهبت إلى بيت الشاعر الألماني هيلدرلن (1770 ـ 1843). وكأنني أمشي على رموش عيني. مشيت برفق كأنني أخشى أن أوقظه.. أو كأنني استأنفت السير في جنازته. وكانت المفاجأة.. فتحت الباب سيدة في غاية الحيوية والبهجة.. وكأنها ترحب بي لأنني جئت إلى عرس مع أنني جئت أقدم واجب العزاء في أمير شعراء ألمانيا الذي مات مجهولا.. ولكن بعد أن عرفوه أسرفوا في حبه..

ولم أكن أعرف هذا الشاعر إلا من خلال ترجمة د. عبد الرحمن بدوي لجزء من ديوانه (هيريون). والذي قرأته أعجبني ولكن عندما عدت إليه أقرأه في لغته وفي لغات أخرى أحببت الشاعر الذي كتب أهم المعاني الفلسفية في غاية الرقة..

فتحت الباب فكانت هذه السيدة التي تهلل كل شيء فيها.. وأشارت بيدها: هذه هي الغرفة التي عاش فيها الشاعر نصف عمره مجنونا.. ونصف عمره بالضبط. شيء غريب: 36 عاما ونصف عام عاقلا والنصف الباقي كان مصابا بانفصام في الشخصية. لا يدري ما يقول وما يقال له..

وأشارت إلى ركن في الغرفة كان يجلس فيه متحدثا إلى نفسه.. فيقول كلمات موزونة ويغنيها.. سعيدا بها لا يدري بنا.. ولكنه سعيد بما يقول. ولم يحدث أن طلب طعاما أو شرابا.. فالجوع والشبع عنده سواء. فكان يقال له هذا موعد الغداء: تفضل.. هذا موعد العشاء: تفضل.. هذا موعد النوم.. هذا موعد دورة المياه. وكان يطيع تماما ولا يقول شيئا. لقد تحول إلى آلة نحركها إلى أي مكان ولا نلقى منه مقاومة.. هنا أقام الشاعر نصف عمره تماما.

ويرى النقاد الألمان أنه أعظم من جيته الذي هو أمير الشعراء.. وأن شاعرية هيلدرلن أروع.. ولكن فلسفة جيته وحبه للحياة هو الذي توَّجه على عرش الشعر..

ورجعت أكثر كآبة وحزنا على موهبة بددها الجنون!