تجنيب المالكي «ويلات» السلام

TT

عملية نسف وزارتي الخارجية والمالية في بغداد تضع نوري المالكي على مفترق طرق سياسي فاصل. الرجل، كرئيس حكومة ورجل دولة، مدعوّ لإدخال تعديل كبير على سياسته ومواقفه وأسلوبه في العمل. رد الفعل الرسمي، على أكبر عملية نسف وعنف منذ الحرب (2003) يوحي بالخيبة. فقد اقتصرت الإجراءات على توزيع الاتهامات على دول الجيران، وتحميل ضباط الأمن والحراسة الميدانيين المسؤولية!

ماذا عن السياسة؟ لا شيء إلى الآن! المالكي يلهث وراء التحول الدرامي في الموقف الشعبي. فقد أدرك العراقيون خطر الأحزاب الدينية. باتوا رافضين للفيدرالية التقسيمية، وللمحاصصة الطائفية. هم يطالبون بحكم مركزي قوي، من دون أن يشكل خطرا على الديمقراطية النسبية التي ينعمون بها.

ككل احتلال أجنبي، فقد ساهمت أميركا في إذكاء نار المناخ التقسيمي. سلّم غباء إدارة بوش جمهورية العراق إلى أحزاب وشخصيات تَرَبَّى معظمها ووعى السياسة في بيئة إيرانية معادية لعروبة العراق، وراغبة في شرذمته وتقسيمه. لا أستثني إدارة أوباما الديمقراطية. فقد سبق لنائبه الحالي جوزف بايدن أن دعا إلى تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات.

أما أوباما نفسه فقد هنأ المسلمين بحلول رمضان، مؤكدا عزمه على الانسحاب من العراق، وهو في ذروة انشغاله بحربه عليهم في أفغانستان، وكأن على كل رئيس أميركي أن تكون له حربه التي تحرقه سياسيا وشعبيا.

تحولُ المزاج الوطني العراقي فرصة سانحة للمالكي للمبادرة. لا تكفي ممارسة اللهاث وراء الموجة. أطلق المالكي شحنة أنفاس متقطعة، مبديا رغبته في مصالحة السنة، وإظهار الدولة كحامية لعراق وطني مستقل، والقول للأكراد إنكم لا تستطيعون أن تشاركوا في حكم العراق وتوجيه سياسته، في حين تستقلون عنه في كردستان.

المالكي أستاذ للأدب العربي، كل دارس للأدب يعرف تاريخ العراق. السنة تبدو اليوم طائفة متعصبة، نتيجة لمباذل ساستها الطائفيين. لكنها حديثا وتاريخيا، فهي التي بنت عراقا عربيا منذ فجر الإسلام، إلى الدولة العباسية (من القرن الثامن إلى القرن الثالث عشر). تَصَرَّفَ السنة من منطلق عربي. لم تتصرف السنة في حكم العراق الحديث كطائفة. حتى حزب البعث كان معظم أعضائه من الشيعة. لم يوفّر صدام السنة، عندما اضطهد الأكراد والشيعة.

مشكلة المالكي أن صورته غير واضحة تماما. يريد مصالحة السنة، لكنه يرفض استيعاب مجالس الصحوة (نحو مائة ألف شاب سني) في الدولة وأجهزتها، على قدم المساواة مع الشيعة، وهو يعرف أنه لولا تحول هؤلاء ضد جاهلية الزرقاوي وبن لادن، لما تمكن الأميركيون من تثبيت الأمن في العراق.

أيضا، ما زال حزب البعث يشكل هاجسا لدى المالكي، متناسيا أن حزبه (حزب الدعوة) كان شريكا لتنظيم الحكيم الموالى لإيران، في رفع شعار «اجتثاث البعث». دعوة مضحكة للاستئصال الدموي لحزب تاريخي له جذوره وعقيدته، على الرغم من كارثية أخطائه الفادحة.

مواقف المالكي المترددة تنسحب أيضا على واجبه القومي كرئيس فعلي للعراق، وليس كرئيس لحزب طائفي. كان «حزب الدعوة» أول حزب معارض يمارس العنف في العراق، قبل أن «يستأصل» صدام قياداته وقواعده. المالكي، كرجل دولة، عليه أن يقدم نفسه للعرب وللعالم، كرئيس حكومة لدولة عربية، متمسكة بوجه العراق العربي، وبدوره القومي.

جاء المالكي إلى الحكم في العصر الأميركي. مع ذلك، أظهر رغبة في إنهاء الاحتلال. لكن عليه أولا أن يحرر نفسه من كل نزعة طائفية أظهرها في بدايات حكمه، ثم انسحب تدريجيا منها، لكن من دون أن يواصل الانسحاب الذي لقي تأييدا شعبيا. لم يستطع المالكي إلى الآن تشكيل قاعدة ائتلافية شيعية سنية، تضمن الاستمرار والاستقرار لحكومته ونظامه، بعد الانسحاب الأميركي نهاية 2011. وكأن المالكي يريد تجنيب نفسه «ويلات» المصالحة والسلام!

تأكيدا لرفضه الطائفية، فقد أمر المالكي بهدم الأسوار التي بناها الأميركيون بين أحياء بغداد، اقتداء بالسور الإسرائيلي في الضفة. لكن ستة أجهزة مخابراتية لم تستطع منع شاحنتين مفخختين بثمانية أطنان متفجرات، من الوصول إلى رمزين وزاريين للسيادة الوطنية.

المبالغة في اعتماد الأمن، بدلا من السياسة، تظهر مدى تردد المالكي في الإقدام على مصالحة وطنية حقيقة. لم تظهر إلى الآن إلا «مجالس إسناد» عشيرية للمالكي. وكأنه شكَّلَها للمشاغبة على «مجالس الصحوة» السنية.

لست هنا في وارد الحملة على الرجل. لقد أثبت أنه رجل دولة في ظروف استثنائية صعبة، إنما أريد أن أستعجله، كرجل لا بديل له حاليا، لحسم موقفه من المصالحة، ومن طائفية القاعدة الحزبية والائتلافية التي يعتمد عليها، ولتقديم نفسه كعراقي عربي ديمقراطي.

كلما حَدَّقْتُ في سحنة المالكي الكئيبة، يغلبني التشاؤم. أشعر بأن الرجل، حتى ولو أراد حقا المضي في المصالحة إلى غاياتها الوطنية السامية، فهو غير قادر على تجاوز حزبه، ولا تحالفاته، ولا التخلص من هواجسه وشكوكه في السنة. السبب، في معظمه، يعود إلى أن المالكي لم يشكل طبقة حكم ومؤسسات واثقة بنفسها، وذات منطلقات عراقية وعربية صافية.

عملية الأربعاء تثبت للمالكي بأن تطويع سنة العراق ليس مُمْكِناً، هؤلاء لهم أيضا هواجسهم ومخاوفهم من قاعدة المالكي الطائفية، ومن ديمقراطية شكلية، تفقدهم حق المساواة في المواطنية، بعدما صنَّفهم الاحتلال وأعوانه، بأنهم مجرد أقلية عشيرية وطائفية.

من المضحك المبكي، أن يبدو عزة الدوري، بعد عملية الأربعاء، محاكيا للمالكي في غموضه. هناك شكوك حتى في أن يكون هذا الدوري موجودا وحيا. فقد كان أكثر شخصيات صدّام هزالا وأمراضا، بحيث يستحيل، منطقيا، تصديق أنه يدير مقاومة ناجحة، من داخل العراق، أو من سورية.

هل الدوري من القوة والنشاط، بحيث يبذل ما يكفي للتنسيق مع «القاعدة» وتنظيمات المقاومة الدينية، وإن لم يستطع إلى الآن توحيدها؟ على أية حال، فطابع البعث يبدو واضحا في اختيار هدفين غير طائفيين، ولا تجمعات بشرية شيعية في الأحياء والأسواق.

بيد أن الطابع السيكولوجي (النفساني) للعملية يعبر عن مدى الرغبة المريضة في التدمير والقتل الجماعي. وهو ليس بطابع مقاومة نبيلة، يجب أن يكون لعنفها سقف لا يتجاوز الإنسانية إلى وحشية بهيمية. إذا كان المالكي مطالبا بتحقيق مصالحة حقيقة، فالبعث أيضا مطالب بتطهير نفسه، من أدران فردية صدام وظلامية نظامه، وتقديم نفسه كحزب ديمقراطي، وتنظيم مفتوح، بلا خلايا سرية، وقادر على الاندماج في العملية السياسية السلمية.

المالكي يملك فرصة أكبر من فرص الدوري للتغيير. لا بد للمالكي من تقبل «ويلات» المصالحة الوطنية. إذا أراد أن يجنب العراق ويلات حرب أهلية، بعد انسحاب أوباما.