لولا الغلو والاستعداء.. ما حدثت تفجيرات بغداد

TT

ما حدث في العراق مؤخرا من عمليات دموية لم يكن حدثا عاديا. وما نُفذ من هجمات اتسم بدقة لا يمكن الوصول إليها من دون اختراقات عميقة في مفاصل مهمة، ولولا التزام المنفذين بعملية توجيه دقيق، واستنادهم إلى خبرات واسعة. ففي العمليات الاستخبارية والأمنية يتوقف النجاح، قبل كل شيء، على مدى المعرفة بثغرات الطرف الآخر. وقد أحدثت العمليات الدموية الأخيرة عموما، وتلك التي جرت يوم الأربعاء في بغداد تحديدا، أثرا كبيرا لم تحدثه أية هجمات سابقة، منذ تفجير مراقد سامراء.

يمكن توصيف النجاح هنا، بالهجمات المنسقة على أهم وزارتين موجودتين خارج المنطقة الخضراء، هما المالية والخارجية، وإلحاق خسائر كبيرة فيهما، وشن هجمات صاروخية وبعبوات ناسفة على أهداف أخرى كوزارة الدفاع ورئاسة الحكومة والبرلمان، وإن أخطأت أهدافها، وتنفيذ الهجمات على جبهة واسعة وبتوقيتات مترابطة، مما يدل على وجود عدد كبير من المنفذين وجهاز تخطيط مركزي بكفاءة عالية وجهاز استطلاع متقدم، فضلا عن وجود تسهيلات لتأمين حرية نقل المتفجرات تشكل ثغرات خطيرة في فلسفة الأمن.

ويصعب التسليم بتمتع تنظيم القاعدة بهذه العوامل الحاسمة مجتمعة، حتى لو شارك عدد من عناصره في العمليات الأخيرة، لأن احتفاظه بهذه العوامل يعني امتصاصه الضربات الشديدة، التي تلقاها خلال السنتين الأخيرتين، وهو مؤشر خطير ينذر بصراع أكثر مرارة.

كالعادة، جرى توجيه الاتهام إلى التكفيريين والبعثيين، وهو أسلوب لم يعد مجديا لتخفيف الاحتقان الشعبي، ولتعزيز الأمن، أو لزيادة الضغط على البعثيين، بقدر ما يفرض وجودهم على الساحة. ومع ضرورة عدم استنساخ ما كنت أردد عن أن الهجمات على المساجد وتجمعات المدنيين ليست من الأسلوب الذي اتبعه البعثيون في عملية المجابهة مع النظام الجديد. لأن هناك من سيجادل ويقول إن الأهداف التي هوجمت يوم الأربعاء تحمل صفة سيادية للدولة، وهي بالتالي لا تتعارض مع الانطباع المتداول عن الأسلوب البعثي الراهن. فإن السياسيين العراقيين المشاركين في العملية السياسية أنفسهم تراشقوا بالتهم، ولو بشكل غير مباشر.

والحقيقة أن المشاكل الكبرى تكمن في العلاقات بين الكتل السياسية والصراع على السلطة، والغلو حتى من أضعف المشاركين في العملية السياسية، وعدم استيعاب الدروس، والتوجهات اللونية المختلفة، وسياسة استعداء الآخر، وبمجموعها أدت إلى هدر طاقات العراق الفنية والأمنية والعسكرية والعلمية. ولولاها لأمكن إجهاض العمليات الإرهابية.

جدليا.. بما أن البعثيين يمتلكون قدرة عالية في الاستطلاع وجمع المعلومات والتخطيط على مستوى استراتيجي، وبما أنهم في حالة صراع مع النظام الحالي، وبملاحظة الأهداف التي هوجمت، ليس ممكنا القطع بعدم وجود علاقة لهم بما حدث، وقد يكون هناك تنسيق بين أكثر من طرف. ولكن، ألم تؤد الهجمات إلى صرف الأنظار عما يجري في إيران؟ وألم يكن صرف الأنظار هدفا إيرانيا؟

لنلاحظ عمليات صرف الأنظار التي بدأت مع الاحتجاجات الإيرانية، حيث هوجمت مناطق تازة جنوب كركوك والبطحاء جنوبا وأهداف في بغداد. وقلنا في حينه إنها عمليات صرف أنظار إيرانية. وليس معلوما إن كانت بأيد ضالة سنية أم شيعية. ثم جاءت أحداث بغداد، وتفجير الحوثيين للموقف في شمال اليمن، والعثور على أسلحة إيرانية في صعدة. ولا أحد يتمتع بنفوذ وتأثير في العراق مثلما يتمتع به فيلق (القدس)، بالقوة والإرهاب، وهو الجهة الوحيدة التي لها علاقات مع «القاعدة» وفرق الموت معا. وإن معظم الأسلحة التي يجري ضبطها في العراق مصنوعة في إيران. والذي يرسل السلاح إلى صعدة لنشر ثقافة العنف وإثارة الاضطراب هو نفسه الفاعل السلبي على أرض العراق.

وبعد هزة بغداد، صدرت تصريحات غير مسؤولة، لم تستثن أحدا ممن كان بعثيا، وطالب سياسيون رفيعو المستوى من خارج الحكومة، بمحاسبة وطرد كبار مسؤولي خطة أمن بغداد وطرد البعثيين. وكان ممكنا أن يكون الطلب معقولا لو ذُكر على هامش تقصير مفترض لا بسبب انتماء سابق.

لو جرى تجميع عشوائي لعدد من الأشخاص في مواقع مختلفة، بما في ذلك قادة الجيش الحالي والأجهزة الأمنية ووزراء ونواب وقيل لهم من لم يكن بعثيا فليرفع يده، لأمكن حساب عددهم بطرفة عين. وبما أن أغلبية ضباط الجيش والأمن المهمين هم من البعثيين السابقين، فالتجريح بهم وإشعارهم بالمنة أو سوداوية صفحات انتمائهم خطاب لا يخدم الأمن، وتحويل انتماء سابق إلى لعنة قد يقود إلى تصلب مقابل، فيكون جواب من يشعر بالحيف (نعم كنت بعثيا وصداميا..)، وتصوروا النتائج. فيما العلاقات بين السياسيين الحاليين لا تختلف كثيرا عن النظر إلى البعثيين، لذلك حان وقت التوقف عن نهج الاستعداء.

من يريد المصالحة ينبغي أن يتمعن في معاني عرض الانفتاح الغربي على المعتدلين في حركة طالبان، أخطر الأعداء، وأن يقرأ بتمعن سيرة حياة مانديلا، وبالتالي أن يشجع الدولة ويدفعها إلى المصالحة وليس العكس.