ظلم الجغرافيا

TT

أفغانستان واحدة من الدول التي ظلمتها الجغرافيا، فهي دولة بلا منافذ بحرية، محاطة بجيران أقوى منها، لا تستطيع تفادي نفوذهم وتأثيرهم، وكانت في فترات تاريخية كثيرة محط تجاذب وصراع، لا بسبب ثرواتها وإمكانياتها، ولكن بحكم أنها ممر جغرافي استراتيجي، فإنها تلعب دورا مهما بالنسبة لتوازنات القوى بين جيرانها المتنافسين على النفوذ.

وكانت هذه الحالة شديدة الوضوح في فترة الحرب الباردة والصراع الذي كان قائما وقتها بين القوتين العظميين في ذلك الوقت، الاتحاد السوفياتي السابق والولايات المتحدة، عندما كان الأول موجودا عسكريا ومن خلال حكومة موالية له، بينما رأت الثانية أن هذه فرصة لاستنزاف منافسها في حرب بالوكالة كانت أطرافها محلية، وفي بعض الأحيان أجنبية من خلال المقاتلين الذين تطوعوا، في فورة الفترة التي أطلق عليها مصطلح فترة «الجهاد»، وكانت فعلا أحد أسباب انهيار الاتحاد السوفياتي السابق الذي كان يعاني أصلا من مشكلات اقتصادية.

والخطأ الذي حدث، والذي دفعت أفغانستان والعالم ثمنه بعد ذلك، أنه فور أن انتهت «الحفلة» وخرج الاتحاد السوفياتي السابق، نسي العالم أفغانستان وكأن شيئا لم يحدث. فقد ترك الأفغان لمصيرهم دون مساعدات تنمية حقيقية أو محاولات للتحديث، وتمكنت حركة طالبان في لعبة أجهزة استخبارات من السيطرة على البلاد، التي أصبحت أيضا مركزا لتنظيم القاعدة. ولم يتنبه العالم إلى خطورة الوضع هناك حتى حدثت هجمات 11 سبتمبر الإرهابية، لتدخل أفغانستان حربا ومرحلة جديدة نعيشها حتى اليوم، دون أن تبدو ملامح واضحة للاستقرار هناك. فأعمال العنف ما زالت مستمرة، وسيطرة الحكومة المركزية ليست على كل المناطق، ودون وجود القوات الدولية هناك يكمن الخطر في وقوع أفغانستان مجددا في يد «طالبان».

ومع الانتخابات الرئاسية الأخيرة المقرر أن تعلن نتائجها الرسمية خلال أيام، يفترض أن تدخل أفغانستان مرحلة جديدة تحتاج إلى إعادة تفكير في الاستراتيجيات والتزاما دوليا أقوى للخروج بتصور واقعي يحدد هدفا بعد فترة زمنية للوصول إلى وضع دولة مستقرة تستطيع حماية نفسها.

وقد يكون من الإيجابيات بالنسبة إلى أفغانستان أن الإدارة الأميركية الجديدة تضعها في مركز الأولوية في استراتيجيتها الخارجية، كما أن تصريحات مسؤوليها العسكريين والسياسيين تعكس إدراكا بأن المعركة لن يتم كسبها بوسائل عسكرية فقط، ولكن من خلال مساعدات دبلوماسية وبرامج تنمية وتعليم... إلى آخره.

وعند الحديث أو التفكير في استراتيجية عملية لتحقيق الاستقرار هناك، يجب أن تكون هناك واقعية في الأهداف والمدة الزمنية المطلوبة، وهي في بعض التقديرات قد تأخذ 40 عاما. وقد يكون في ذلك تشاؤم شديد، لكن الواقعية تفترض إدراك أن الالتزام هناك لن يكون لفترة قصيرة.

المشكلة في ذلك هو أنه من الصعب إقناع الرأي العام في الدول التي تشارك بقوات هناك وتعاني من خسائر يوميا بإبقاء هذا الالتزام، فسيناريو «فض الحفلة» والانسحاب المفاجئ قابل للتكرار لتعود الأمور إلى الانتكاس بشكل أسوأ.

والسؤال الذي يجب طرحه عند التفكير في استراتيجية واقعية، هو: لماذا لا يتم تقوية الجيش الأفغاني وقوات الأمن المحلية تسليحا وموارد لتضطلع هي بالعبء الأمني الأكبر؟ فهي الأعرف بجغرافيتها المحلية والأقدر على التعامل مع السكان المحليين باعتبارها جزءا منهم، كما أنه ليس معقولا أن تستطيع «طالبان» دفع رواتب لمقاتليها أعلى من التي يتقاضاها الجنود الحكوميون، كما تفيد بعض التقارير الواردة من هناك. أما الجانب الآخر الأكثر أهمية فهو التنمية الاقتصادية، وهو مشوار طويل، لكنه المفتاح الحقيقي للاستقرار.