ولاء «سنة لبنان» لوطنهم وعروبتهم

TT

كتب الكثير عن أسباب تمادي أزمة تأليف الحكومة اللبنانية، وأبعادها الإقليمية والطائفية والمذهبية والحزبية والدستورية. ولا مجال لمزيد. إلا أن ثمة ناحية تستحق التوقف عندها والتأمل في باطنها وموقعها في هذه الأزمة الأخيرة، بل وفي الأزمات السياسية التي شهدها لبنان، منذ استقلاله. ونعني موقف ودور سنة لبنان في الحياة السياسية والوطنية اللبنانية.

فلقد كان لافتا في تصريحات وليد جنبلاط الأخيرة دعوته الرئيس المكلف سعد الحريري إلى «عدم تطييف السنة» في لبنان. كذلك كان تهجم الجنرال عون على الرئيسين السنيورة والحريري، والذي تفوح منه رائحة طائفية، لا حزبية أو سياسية فحسب.. كما كان ملفتا تصريح الرئيس الأسبق للحكومة عمر كرامي، وهو من أقطاب المعارضة، بعد زيارته للرئيس المكلف الذي رد فيه على تهجمات عون، ودافع بشكل غير مباشر عن مركز رئاسة الحكومة الذي هو من نصيب السنة في الميثاق الوطني اللبناني واتفاق الطائف، والذي لم تتوقف الضغوط الإقليمية، والحزبية الطائفية اللبنانية، عن محاولة إضعاف دوره وصلاحياته الدستورية.

إن «لبننة» المسلمين السنة استغرقت سبعين عاما ونيف. ففي بدايات نشوء الكيان الوطني اللبناني في ظل الانتداب الفرنسي، كان السنة في أكثريتهم، وعلى لسان زعاماتهم، يعارضون ضمهم إلى كيان وطني لا يشكلون الأكثرية فيه، كما كان حالهم منذ مئات السنين في ظل السلطنة العثمانية والخلافة العربية قبلها. وكان ولاؤهم الوطني أو القومي يذهب إلى الأمة العربية وسورية التي تجسمت في التيارات والأحزاب الوطنية التي عرفتها، بعد سقوط السلطنة العثمانية، أماني الاستقلال والوحدة العربية.ولكن الاستقلال اللبناني عام 1943 والميثاق الوطني الذي وفق بين الاستقلال والانتماء العربي، أسقط الحواجز بين السنة في لبنان، والكيان الوطني اللبناني، لاسيما بعد أن اعترفت الدول العربية بكيان لبنان وسيادته. وتركز ولاؤهم على الوطن، من دون أن يتخلوا عن مشاعرهم القومية العربية، وتحولت مطالبهم إلى صعيد المساواة في الحقوق والحكم والوظائف. صحيح أن «الموجة الناصرية» التي شهدتها المنطقة في الخمسينات، والأحلام الكبيرة التي بعثتها الوحدة المصرية ـ السورية، حركت في نفوس مسلمي لبنان وغيرهم من العرب، مشاعر الاندفاع وراء تيار أوسع من حدود الوطن، ولكن ما من صوت بين زعماء السنة طالب بانضمام لبنان إلى الجمهورية العربية المتحدة، ولا بإعادة النظر في الميثاق الوطني اللبناني. ونجح الرئيس فؤاد شهاب خلال حقبة حكمه في إشراك المسلمين، في الحكم والإدارة، وفي تجهيز وتنمية المناطق الإسلامية إلى حد كبير، الأمر الذي جعل المسلمين يشعرون بمزيد من الحضور السياسي، وبالتالي من الولاء للبنان. إلى أن انتقلت المقاومة الفلسطينية إلى لبنان في نهاية الستينات وتحالفها مع القوى اليسارية والقومية الثورية وسيطرت معها على «الشارع الإسلامي». وهي سيطرة حجمت من الزعامات السنية التقليدية وحملت الأحزاب المسيحية على التسلح، وكانت النتيجة: اندلاع الحرب الأهلية التي سوف تمزق لبنان طيلة خمسة عشر عاما. خلال هذه الحرب التي نقضت كل المرتكزات الوطنية والسياسية التي تقوم عليها الأوطان والدول، لم يتخل المسلمون السنة عن تعلقهم بوطنهم لبنان، ولا عن تحمل مسؤولية الحكم، مما أدى إلى اغتيال عدد من قادتهم وتحملوا بألم تحكم الميليشيات المسلحة بهم.. إلى أن كان اتفاق الطائف الذي جدد الميثاق الوطني بين اللبنانيين على أسس للحكم أكثر توازنا ومراعاة للواقع البشري والأوضاع السياسية العامة في لبنان والمنطقة والعالم. فبقيت رئاسة الحكومة من حصة السنة وانتقلت بعض صلاحيات رئيس الجمهورية الماروني إلى «مجلس الوزراء مجتمعا»، وعزز مقام رئيس المجلس الشيعي، وتضمن الدستور الجديد مادتين حاسمتين للجدل الوطني منذ قيام لبنان، وهما: «نهائية كيانه» التي تطمئن المسيحيين و«عروبته» التي ترضي المسلمين عموما.

عاش اللبنانيون خمسة عشر عاما في ظل اتفاق الطائف ـ أو ما سمحت سوريا بتنفيذه منه ـ. لم يكن المسيحيون راضين في قرارة أنفسهم عن اتفاق الطائف رغم أن تبنيه لمبدأ المناصفة في المجلس النيابي والإدارات العامة بين المسيحيين والمسلمين، من شأنه طمأنتهم أمام تفوق المسلمين عليهم عددا. ولم يكن السنة مرتاحين للهيمنة العسكرية والسياسية السورية التي كانت تشعرهم بأنهم تحت انتداب جديد. ولم يكن الشيعة يخفون تململهم ويرفعون صوتهم بالمطالب نظرا لشعورهم بحجمهم البشري الكبير، وصعودهم الاقتصادي والاجتماعي ودعم سوريا وإيران لهم، لاسيما بالسلاح. ولكن رؤساء الحكومات السنة الذين تعاقبوا على الحكم منذ عام 1991، نجحوا في القيام بالدور الذي أعطي لرئاسة الحكومة، وتصرفوا كرجال دولة في تطبيق اتفاق الطائف وإدارة شؤون الحكم رغم اصطدامهم برئاسة الجمهورية (في عهد اميل لحود)، والتدخل السوري في الحكم، ومذهبية مواقف القوى السياسية والطائفية الأخرى منهم ومن اتفاق الطائف. إلى أن اغتيل الرئيس رفيق الحريري واندفعت الجماهير في معركة الاستقلال الثاني، ووجد السنة أنفسهم في صف واحد مع مسيحيين ودروز، وراء مطالب وطنية واحدة. وكان من جراء هذه الثورة الاستقلالية الثانية خروج القوات السورية من لبنان، وتكوين جبهة وطنية سياسية تضم كل الطوائف، ترفع شعار «لبنان أولا».

نعم، يمكن القول بأن سنة لبنان قد «تلبننوا»، بشكل واضح وصريح، في السنوات الأربع الأخيرة. ولكنهم لم «يتطيفوا» كما يحاول البعض «اتهامهم» بالعصبية الطائفية أو المذهبية. صحيح أن المسلمين السنة لم يشاركوا في حروب الطوائف خلال الحرب الأهلية. وأن أوضاعهم الحياتية والاقتصادية والاجتماعية في المدن الكبرى، تجعلهم اقرب إلى «المواطنية» منهم إلى «الرعايا» الطائفيين. ولكن ما تعرضوا له من أخطار وأضرار واعتداءات، خلال الحرب الأهلية ـ ومؤخرا ـ على يد ميليشيات طائفية أو مذهبية، ولد في نفوسهم ردة فعل دفاعية عن النفس، عبروا عنها بغضبهم وتكتلهم في «تيار المستقبل» الذي يرأسه الرئيس سعد الحريري. ولكن ما من أحد من زعمائهم ونوابهم دعا ـ ردا على التحديات الطائفية الأخرى لها ـ إلى تكتل أو مواقف طائفية مسلحة أو غير مسلحة. بل كان مطلبهم الجماعي هو تعزيز قدرات الدولة كمرجع وسلطة وحيدة للحكم والإدارة والدفاع عن البلاد ومصالح العباد.

لماذا تتعرض رئاسة الحكومة في لبنان لهذا الهجوم السياسي والطائفي عليها؟ لماذا توضع كل هذه العراقيل في درب تأليف الحكومة؟ لماذا هذا النقض الصريح أو المستتر لاتفاق الطائف؟

ربما كان السبب في أن سنة لبنان، في أكثريتهم، هم أبعد الطوائف اللبنانية، تاريخيا وسياسيا وواقعيا، عن التكتل أو التعصب الطائفي. وأنهم في رفعهم شعار «لبنان.. أولا»، لم يتخلوا عن عروبتهم. بل اختاروا عروبة سمحاء وديموقراطية منفتحة على العالم وليست معادية له. وهذا ما لا يعجب الطامعين في إخضاع لبنان وإخضاعهم لسيطرتهم، في الداخل والجوار والمنطقة.