اللص والفنان

TT

هو فتى لا يتجاوز عمره السادسة عشرة، كان متشرداً ومتعوداً على النشل، وشاهد أحد الرجال يصرف نقوده على جلسائه في أحد المقاهي باستهتار، فتيقن أنه صيدة سهلة له، وتبعه وعندما دخل في الزحام حاول نشله غير أن الرجل كان أسرع منه وأمسك بيده، وأخذ الفتى يرتجف من الخوف، فتبسم الرجل بوجهه قائلا له: إنني صرفت كل ما لدي قبل دقائق وجيوبي خالية من المال، ولكن لماذا أنت تفعل هذا؟!

ويقول الفتى إنني أجبته: إنني أريد أن أعمل، فهل تسمح لي أن أخدمك؟!، قال: ولكنني لا أستطيع أن أدفع لك أجراً، قلت: ألا تستطيع إطعامي؟!، سألني: وهل تحسن الطهو؟!، أجبته: بنعم، وأنا أكذب.

أخذني إلى حجرته القائمة فوق حانوت وأبلغني أني أستطيع النوم في الشرفة، وطبخت له تلك الليلة ويبدو أن الطبخ كان رديئاً والدلالة على ذلك أنه لم يأكله وإنما أعطاه لكلب من كلاب الشوارع، ثم طردني بيد أني لم أبرح المكان وإنما وقفت في وجهه مبتسماً، فدهش ثم انفجر ضاحكاً، وقال: لا بأس سوف أعلمك الطهو والقراءة والكتابة.. وعرفت أن اسمه (آنيل) وهو أديب يمتهن الكتابة، وكان العمل في خدمته مريحاً، أعد له الشاي في الصباح ثم أذهب إلى السوق لشراء حاجيات النهار، وأختلس ما أستطيعه كل يوم من المشتريات.

لم أعرف رجلا أكثر منه يحرص على الحصول للمال لكي ينفقه، وإذا لم يحصل عليه هذا الأسبوع يقترضه ليسدده في الأسبوع التالي، وإذا كتب عدّة مقالات وأتاه مبلغ احتفل مع رفاقه رأساً لتبديده في إحدى الحانات.

وفي إحدى الليالي أتى (آنيل) حاملا رزمة كبيرة من الأوراق المالية وقال لي إنه باع مؤلفاً لأحد الناشرين، وقبل أن ينام رأيته يخبئ ذلك المال تحت الفراش، وقد مضى علي الآن شهر في خدمته، وأخذت تتنازعني محبته ورغبتي في سرقته، وأخيراً قلت لنفسي: إنني إذا لم اسرق ذلك المال فسوف يبدده هو على أصدقائه في أماكن اللهو، وإنني لو تمكنت من أخذ المال لسوف ألحق بقطار الساعة الواحدة ليلا، وفعلا تسللت وحبوت نحو السرير وكان (آنيل) يغط في سبات عميق، واندست يدي تحت الفراش وسحبتها بهدوء فيما زفر هو وانقلب إلى الجانب الآخر، وزحفت بسرعة وخرجت، وفي ركن مظلم أخرجت رزمة النقود من تحت قميصي وهالني مقدارها الذي أستطيع أن أعيش به عيشة الأمراء لمدة سنة كاملة. وصل القطار وتوقف لمدة خمس دقائق وأنا أنظر إليه وأنظر إلى شباك التذاكر وقد تسمرت قدماي، وبعدها تحرك القطار واختفى، ووجدت نفسي وحيداً واقفاً على الرصيف المهجور، ليس لي أصدقاء، ولم أرد أن أثير الشكوك بنزولي في أحد الفنادق، والوحيد الذي أعرفه جيداً هو الذي سطوت على ماله، وجلست على أحد المقاعد الخشبية أتراعد من شدة البرد وزاد من انزعاجي انهمار المطر الغزير.

وفجأة عدت إلى نفسي قائلا: من السهل على المرء أن يسرق، ولكن أن يكون أميناً فهذه مسألة أخرى، لا بد أن أعود إلى (آنيل) من أجل أن أكون أميناً ولكي أتعلم القراءة والكتابة، وأخذت أعدو نحو مسكنه وفتحت الباب بهدوء، ودخلت غرفته وشاهدته لا يزال مستغرقاً في نومه، وأخذت الرزمة ودسستها تحت الفراش من جديد، وتنفست الصعداء وذهبت ونمت، وعندما أفقت في الصباح وجدت (آنيل) قد أعد لي الشاي هو بنفسه، ومد يده نحوي بمبلغ من المال وشعرت بقلبي يهبط هلعاً ظاناً أن أمري قد انكشف، ولكنه قال: أنت تعرف أنني حصلت على مبلغ كبير من المال، ومن الآن فصاعداً سوف أدفع لك أجراً بانتظام، كما أنني من اليوم فصاعداً سوف أكثف تعليمك القراءة والكتابة. وعندما لامست يدي النقود لاحظت أنها ما زالت مبتلة من الأمطار، وكان (آنيل) يدري بكل ما حدث ولكن لم تفصح شفتاه ولا عيناه عن أي شيء.

خدمته عدّة سنوات وتعلمت منه الوفاء، وواصلت تعليمي ونلت أعلى الشهادات.