«السلطة الوطنية».. من فوضى الثورة إلى انضباط الدولة

TT

بينما اقترب موعد عودة الموفد الأميركي جورج ميتشل إلى المنطقة وبينما تتلاحق اللقاءات العلنية والسرية استعدادا لـ«المبادرة» التي طال انتظارها والتي بات في حكم المؤكد أن الرئيس باراك أوباما سيطلقها لدى اجتماع الجمعية العمومية للأمم المتحدة في شهر سبتمبر (أيلول) المقبل فإنه بإمكان العرب أن يقدموا إلى العالم المعني بإيجاد حلّ للقضية الفلسطينية وإنهاء النـزاع في الشرق الأوسط إنجازين حققهما الشعب الفلسطيني، يمكن التأكيد من خلالهما على أن هذا الشعب ـ خلافا لما يقوله الإسرائيليون ـ بات مؤهلا لتحمل تبعات قيام دولته المستقلة أمنيا وسياسيا وأنه قادر على حماية أي اتفاق يتم إبرامه بين منظمة التحرير والدولة الإسرائيلية.

الإنجاز الأول: هو أن حركة «فتح» التي هي مفجّرة الثورة الفلسطينية المعاصرة والتي هي راعية المشروع الوطني الفلسطيني تمكنت من عقد مؤتمر بمستوى مؤتمرات الأحزاب التي تتناوب على الحكم إنْ في بريطانيا أو في الولايات المتحدة أو في أي دولة من الدول العريقة في ديموقراطيتها سواء في الشرق أو في الغرب مثل الهند واليابان وألمانيا وفرنسا.

إن هذا ليس مبالغة ولا تجاوزا على حقائق الأمور، فالإتيان بكل هذه الأعداد من أعضاء حركة هي لا تزال حركة تحرر ومن أربع رياح الأرض وبما يحملون من مؤثرات وتأثيرات خارجية، عربية بالأساس، إلى بيت لحم والخروج بالنتائج التي تم الخروج بها وأهمها ترسيخ الوحدة التنظيمية والسياسية لهذه الحركة يدل على ما هو أكثر من اجتراح المعجزات ويدل على أن حركة «فتح» غدت مستعدة لتحمل مسؤولية ما يمكن التوصل إليه بالنسبة إلى عملية السلام التي بات في حكم اليقين أنها ستُستأنف وبزخم جديد خلال فترة قريبة.

الآن بعد هذا المؤتمر، الذي بالإمكان التأكيد على أنه جسّد حتى بمجرد انعقاده إرادة ورغبة غالبية الشعب الفلسطيني، أصبح محمود عباس (أبو مازن) أقوى مما كان عليه بكثير وأصبح يستند، بالإضافة إلى قرارات هذا المؤتمر ودعمه، على وحدة موقف يتمثل في لجنة مركزية متماسكة ولجنة تنفيذية جرى ترميمها في انعقاد الدورة الاستثنائية التي عقدها المجلس الوطني الفلسطيني الذي هو أعلى محطة قيادية فلسطينية أمس الأربعاء.

كان محمود عباس (أبو مازن) قد واصل المفاوضات مع حكومة أيهودا أولميرت الإسرائيلية في ظروف بغاية السوء والتعقيد، فالتركة التي ورثها بعد رحيل ياسر عرفات (أبو عمار) ثقيلة ومربكة، والأوضاع الفلسطينية بعد انفصال غزة عن الضفة الغربية وبعد انقلاب «حماس» على السلطة الوطنية، لم تكن ولا في أي يوم من الأيام متردية ومتهاوية على النحو الذي غدت عليه وكل هذا زاد الإسرائيليين تطرفا ويمينية.

إن هذا هو الإنجاز الأول، الذي بالإمكان البناء عليه لإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية ناجحة في مطلع السنة المقبلة وذلك حتى وإن بقيت حركة «حماس» تتخذ هذا الموقف المتشنج والعدمي الذي تتخذه، أما الإنجاز الثاني فهو أن الضفة الغربية غدت، بعد حالة الانفلات المفزعة التي عاشها قبل «انتفاضة الأقصى» التي كانت وبالا على الشعب وقضيته، وبعد ذلك، نموذجا للدولة الفلسطينية المنشودة من حيث الأمن ومن حيث الاستقرار ومن حيث الأوضاع الاقتصادية المزدهرة وتلاشي الحالة المرضية التي سادت لفترة الطويلة.

عندما سيقول الإسرائيليون لدى استئناف عملية السلام التي ستُستأنف قريبا بأنهم لا يستطيعون تكرار ما حصل في غزة، التي بعد انسحابهم منها وتفكيك مستوطناتهم هناك تحولت إلى قاعدة لـ«الإرهاب»!! وإطلاق الصواريخ، فإن الجواب الفلسطيني والعربي والدولي أيضا سيكون حاضرا وهو: أن الضفة الغربية ها هي أمامكم باستقرارها الأمني وبسيطرة السلطة الوطنية على كل شيء فيها وبأوضاعها الاقتصادية المتنامية التي حَمَت أهلها من الأموال العابرة للحدود والحواجز التي ترسل من إيران وتصل إلى إمارة «حماس» الإسلاموية على نهج الولي الفقيه عبر المحطات المعروفة.

إلى ما قبل تشكيل الحكومة «المؤقتة» التي يرأسها سلام فياض، المشهود له حتى دوليا بنظافة اليد وبالكفاءة والتفاني في العمل، كانت أحوال الضفة الغربية أسوأ من أحوال غزة الآن فالأمن مضطرب والاستقرار مفقود والفساد ضارب أطنابه وكانت التجاوزات على المواطنين وحتى على مؤسسات السلطة الوطنية لا حدود لها وكان الاقتصاد منهارا وحياة الناس كانت بائسة وكانت الخدمات معدومة. وهذا ما أراده الإسرائيليون عندما عادوا، في عهد حكومة أرئيل شارون، لاحتلال ما كانوا قد انسحبوا منه بناء على اتفاقيات أوسلو المعروفة.

خلال العامين الماضيين، وبعد تشكيل حكومة سلام فياض التي أعطاها الرئيس محمود عباس (أبو مازن) صفة المؤقتة حرصا منه على رفض التقسيم، بدأت الأمور في الضفة الغربية تتغير شيئا فشيئا فالسلطة فرضت هيبتها على الجميع والملثمون اختفوا واختفت مع اختفائهم ظاهرة الابتزاز و«الإتاوات» وبات الفلسطيني الذي عاش ظروفا قاسية فعلا، بين جبروت الاحتلال وتعديات المستوطنين وحواجز الجيش الإسرائيلي وبين انفلات الأمن واستشراء ظاهرة العصابات الإجرامية المحلية، يبيت ليله آمنا ومطمئنا على أطفاله وممتلكاته وكرامته.

الآن انتهت في الضفة الغربية ظاهرة إطلاق نيران البنادق والأسلحة الرشاشة في الأعراس والأعياد والمناسبات الاجتماعية التي هي وظاهرة المفرقعات مستشرية في بعض الدول العربية. والآن اختفت ظاهرة السيارات المسروقة واختفت الفوضى التي كانت تسود حتى في مدينة رام الله التي تُعتبر العاصمة المؤقتة للدولة الفلسطينية المنشودة وهذا كله يقدم نموذجا لهذه الدولة التي يدعي الإسرائيليون أنها لن تكون إلا على شاكلة دولة غزة.

ولهذا وفي ضوء هذا كله فإن الفلسطينيين سيذهبون إلى المفاوضات، التي من المفترض أن تُستأنف بعد أن يطلق باراك أوباما مبادرته الموعودة خلال اجتماع الجمعية العمومية للأمم المتحدة في سبتمبر (أيلول) المقبل، وهم يحملون نموذج الضفة الغربية كسلاح يواجهون به كل الادعاءات والألاعيب الإسرائيلية. فالأمن مستتب ولم يعد هناك لا فلتان تنظيمات ولا فلتان أسلحة. وهكذا كما أن السلطة الوطنية تسيطر الآن على كل شيء في هذه المنطقة التي تسيطر عليها فإن الدولة المستقلة التي ستقوم ستكون قادرة على الوفاء بكل ما ستلتزم به في أي اتفاقية أمنية وغير أمنية ستوقعها مع الدولة الإسرائيلية.

في السابق وقبل أن يحدث في الضفة الغربية على مدى العامين السابقين هذا الذي حدث كان العالم ومن ضمنه الدول المعنية بالسعي لحل مقبول للقضية الفلسطينية وإنهاء هذا الصراع المحتدم في الشرق الأوسط يستمع بإصغاء وتفهُّم لوجهة نظر الإسرائيليين القائلة بأنهم لا يجدون الطرف الفلسطيني الموثوق به الذي بإمكانهم مفاوضته وعقد اتفاق معه قوامه الأمن. أما الآن فإن هذا المبرر لم يعد لا مقنعا ولا مقبولا، لا من قِبل الأميركيين ولا من قبل الأوروبيين ولا من قِبل أي جهة دولية أخرى، والدليل هو هذا الاستقرار الذي تعيشه مناطق السلطة الوطنية وهو هذا الضبط والربط الذي لا يقل عما هو سائد حتى في الدول الغربية المستقرة والديموقراطية.

وبالمحصلة فإن ما يجب تسجيله على جدول إيجابيات عهد محمود عباس (أبو مازن) هو الانتقال بوضع الضفة الغربية من حالة فوضى «الثورة» إلى حالة انضباطية الدولة وهذا بالنسبة إلى وضع كوضع القضية الفلسطينية، حيث تكثر الأيدي الممتدة من الخارج وحيث إن الخصم هو إسرائيل، أمر في غاية الأهمية بالإمكان البناء عليه لتحقيق إنجازات كثيرة ستشمل غزة لاحقا بالتأكيد حيث إن هذا الانفصال سيكون مؤقتا مهما طال، وحيث إن تجربة «الإمارة الإسلامية» التي أقامتها «حماس» في القطاع المنكوب قد فشلت وشبعت فشلا وأصبحت عبئا حتى على الإخوان المسلمين وتنظيمهم العالمي وبخاصة بعد أن حصل كل هذا الذي حصل.