لكم وطنكم.. ولي وطني

TT

استوحيت عنواني من مقال بعنوان «لي يمني ولهم يمنهم» لكاتبة كريمة من بلاد اليمن السعيد «العزيز علينا» وجدته في بريدي الإلكتروني، فلمرسله مني فائق الشكر، حتى وإن كان قد أرسله بطريق الخطأ، إذ إنني بعد قراءتي لذلك المقال استرجعت ما دار بيني وبين بعض الإخوة العرب الذين التقيتهم في سفرتي الأخيرة إلى سويسرا.

كنت جالسا على ضفاف بحيرة جنيف، مستغرقا في جمال المكان، اقترب مني ثلاثة من العرب، ويبدو أنهم بعد أن عرفوا بلدي اختلقوا موضوعا للنقاش الحاد، لعلهم يثيرون في نفسي ما يدفعني إلى مشاكستهم. كان نقاشهم يدور حول شعارات ثورية ترجع إلى الستينات الميلادية، قد أكل عليها الزمان وشرب، وكشفت الأيام حجم خوائها، وإن كانت قد نجحت في وقت من الأوقات في دغدغة مشاعر الكثير حتى من المثقفين.

انتقل أحدهم بالحديث إلى سويسرا، وما فيها من طبيعة وحرية، بينما كنت قد هممت بالمغادرة، بعد أن مللت من سماع حديثهم المكرر. وحين شعروا بانسحابي من المكان التفت إلي أحدهم وسألني عما إذا كنت أرغب في أن أعيش في بلد كسويسرا، وأستمتع بطبيعتها وحضارتها وحريتها. انسحبت في هدوء ولم أقل شيئا، وسمعت أحدهم يقول لصاحبه: «هؤلاء متخلفون، لا يعرفون معنى الطبيعة والحضارة والحرية».

يواجه الإنسان في حياته كثيرا من المواقف التي يعيد فيها النظر في مكتسباته، ويعرف من خلالها حجم القناعات التي ترسخت في نفسه ووجدانه. والسفر محطة مهمة تكثر فيها مثل هذه المواقف، خصوصا إذا كان بعيدا عن الوطن، حيث يذوق طعم الانتماء.

انتمائي إلى وطن خالٍ من العقد السياسية المتوارثة جيلا بعد جيل، وبعيد عن الثورات وما بعدها من تصفية الحسابات. يكون في نفسي الانتماء الحقيقي، ويجعلني أشعر بالانجذاب نحو الهوية والأرض. لذلك أقول وبكل فخر: «لي وطني».

أما أنتم فقد عشتم الصراع بين العسكر والشعب، وذقتم الويلات بفعل الانقلابات والتصفيات، وصنعتم أسودا من ورق، ونفختم فيها حتى سدت عليكم الأفق، ولم يعد بإمكانكم رؤية شيء على أرض الوطن غيرها، لذلك فأنا أعذركم، وأقول لكم بكل أسف: «لكم وطنكم».

لي وطني العربي الكبير، الذي أعتز بالانتماء إليه، وأشعر بالوحدة والتلاحم حين أجوبه من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه، الوطن الذي أصبحتم وصمة عار في جبينه، لذلك أغض الطرف حين أرى أمثالكم، في الوطن الكبير أو في المهجر. ليس تعاليا أو كرها، لكنني أنزه نفسي عن الانبتات من جذوري.

لي وطني بتمره ولبنه وأمنه واستقراره، وكتابه وسنّته، ولكم وطنكم بثرواته المهدرة، وثوراته الهادرة. لي وطني الشامخ بعقيدته الصافية، ومبادئه الثابتة، ولكم وطنكم حجرا على طاولة شطرنج. له في كل يوم اتجاه.

فلكم وطنكم بكل فقاعاته الفارغة، ولي وطني بكل خيراته ومصانعه وجامعاته.

لكم وطنكم مقابر جماعية، ولي وطني مملكة إنسانية.

فلكم وطنكم.. ولي وطني.