يا لثارات الأخ معمر!

TT

نستحضر هذه الأيام كيف أن العقيد معمر القذافي وجد نفسه عندما أوحى الرئيس أنور السادات في أكثر من مناسبة أن ليبيا القذافية لم تساند مصر في زمن التحضير للمعركة، يوجّه وسائل الإعلام في جماهيريته لنشْر قوائم مفصَّلة بكل سلعة قدّمَتها ليبيا إلى مصر الساداتية. وكانت تلك الخطوة على رغم الجانب الاضطراري منها مؤلمة خصوصا عندما قرأنا في هذه القوائم أنواعا من الدعم مثل السكر والشاي والصابون والزيوت والمناديل الورقية.

وفي تقديري أن العقيد القذافي لا بد أنه ندم متأخرا على خطوته هذه ليس من أجل ود مفقود مع السادات الذي أقلقه إصرار القذافي على مسيرة ليبية وحدوية تدخل القاهرة بالقوة لتسليم السادات مذكرة إعلان الوحدة مع ليبيا ومحاضرات لا يستسيغها الساداتيان أنور وجيهان فأرسل طائرات قصفت قواعد عسكرية ليبية يوم 19 يوليو 1977 وكادت ترتكب الخطأ الأكبر في حق الدولة الشقيقة الجارة التي تستوعب نحو مليونَي مصري، بمعنى أن تُسقِط صواريخ فوق باب العزيزية مقر سكن وقيادة القذافي كما حدث لاحقا على أيدي الرئيس ريغان في أبريل (نيسان) 1986 حيث دمرت الطائرات الريغانية المعتدية منزل الأخ معمر وتسببت في قتل ابنة له بالتبني، وذلك ردا على تفجير قاعة رقص في برلين يرتادها جنود أميركيون وتوجيه الاتهام إلى ليبيا، وإنما من أجل مصر وبعض الذكريات الحميمة في بدايات ثورة الفاتح ومبايعة عبد الناصر للضابط الشاب معمر القذافي أمينا للقومية العربية من بعده.

في خطوته المندوم عليها، على نحو ما يجوز الاعتقاد، كان الأخ معمر يثأر من استهانة السادات به إلى حد استعمال عبارة «مجنون ليبيا» في خُطبه التي يلقيها وفي أحاديثه مع بعض الذين يلتقيهم من مسؤولين عرب وأجانب.

أما لماذا نستحضر الواقعة القذافية ـ الساداتية، فلأن وقائع أخرى حدثت وتعكس الطبيعة الثأرية عند القذافي مع التركيز هنا على ثلاث حالات: حالة الثأر من إيطاليا التي فعلت بليبيا أكثر مما فعلَته فرنسا بالجزائر، وحالة الثأر غير المكتمل من أميركا وبريطانيا اللتين اضطرتاه، إدارة الأولى وحكومة الثانية، إلى تنازلات في موضوع سقوط طائرة الركاب الأميركية فوق لوكربي (اسكوتلندا) عام 1998. ففي الحالة الأولى نرى القذافي يتوجه إلى روما يوم الأربعاء 10 يونيو (حزيران) 2009 في زيارة رسمية هي الأولى منذ تولّيه السلطة في البلاد يوم أول سبتمبر (أيلول) 1969، مصحوبا بمحمد المختار نجل المجاهد الليبي عمر المختار وعدد من أبناء مجاهدين ومنفيين. وكان لافتا أن القذافي وصل مرتديا زي الماريشالية وقد علَّق على صدره لجهة اليمين صورة قائد المقاومة الليبية ضد المستعمِر الإيطالي في عشرينات القرن الماضي الشهيد عمر المختار وهو مقيَّد بالأغلال إلى جانب آسريه الإيطاليين عام 1931 وذلك قبل إعدامه شنقا. وقد انتظر القذافي على الدرجة ما قبل الأخيرة من سُلَّم الطائرة ممسكا بعصا الماريشالية إلى حين نزول محمد عمر المختار البالغ من العمر سبعة وثمانين عاما الذي كان ينزل سُلَّم الطائرة درجة درجة بصعوبة يعاونه مرافق يمسك بعصا الشيخ. وكانت من محاسن الصدف للعقيد القذافي أن محمد المختار ما زال على قيد الحياة لأن اصطحابه في الزيارة أيقظ في نفوس أحفاد الحقبة الفاشية وأبناء الأحفاد ذكريات بالغة المرارة عن حقبة تاريخية غير مشرِّفة لهم.وإلى اصطحاب محمد المختار وأبناء مجاهدين ومنفيين إضافة إلى وفد ضخم يملأ طائرتَي ركاب حرص القذافي، وجاراه الرئيس برلسكوني في الحرص، على نصب خيمته الشهيرة في أكثر حدائق روما اتساعا وهي حدائق «فيلا دوريا بامفيلي».

لم تتم زيارة القذافي إلا بعدما تحققت نسبة خمسين في المائة من الثأر متمثلة باعتذار إيطاليا البرلسكونية خلال زيارة برلسكوني إلى ليبيا عام 2008 عن سنوات بالغة الشراسة من الاستعمار الإيطالي على مدى 32 سنة (من 1911 إلى 1943) ثم تحققت نسبة الخمسين في المائة الأخرى من خلال الوصول نوعا وشكلا ودون أن تستوقفه احتجاجات، من هنا وهناك رد عليها بما يهدئ الخواطر وذلك من خلال الإيحاء للإيطاليين بأنه كان قادرا على أن يكون مالك سلاح نووي مثل سعي إيران إلى ذلك الآن وهذا يعني أن تكون إيطاليا التي تفصلها عن ليبيا ساعة طيران فوق مياه المتوسط تحت رحمة الصواريخ الليبية ذات الرؤوس النووية، لكن ليبيا تخلت عن مشروع امتلاك أسلحة الدمار الشامل ومع ذلك عوقبت بالحصارات.

وبالنسبة إلى برلسكوني رمز المصالحة الليبية ـ الإيطالية فإن كل ما يهمه من الأمر هو الاطمئنان إلى وفرة النفط الليبي لإيطاليا، فضلا عن استثمارات ليبية مجزية في زمن تتكاثر فيه تداعيات الأزمة المالية والاقتصادية على دول العالم الأول بدءا من أميركا وصولا إلى إيطاليا.

بعد الثأر من الحقبة الفاشية فُتحت بوابة إيطاليا البرلسكونية أمام عبور الأخ معمر إلى المجتمع الدولي، وها نحن نراه مشاركا يوم الخميس 9 يوليو (تموز) 2009 في قمة الثماني في منتجع «لاكويلا» في إيطاليا. فهو في فترة تمهد لعهد أميركي ـ ليبي جديد تبادل خلال عشاء للرؤساء المشاركين في هذه القمة التصافح مع الرئيس الأميركي باراك أوباما، وهذا يحدث للمرة الأولى وبات طبيعيا في ضوء استئناف العلاقات الدبلوماسية بين الولايات المتحدة وليبيا في يونيو 2004 وزيارة وزيرة خارجية الإدارة البوشية كوندوليزا رايس إلى طرابلس (وهي الأولى من نوعها على هذا المستوى منذ العام 1953) ولقائها القذافي، وكان قد تم وضع نهاية مالية للأزمة المتعلقة بحادثة الطائرة الأميركية فوق لوكربي خلال زيارة وزير الخارجية الليبية السابق عبد الرحمن شلقم إلى واشنطن في أغسطس (آب) 2008 التي كانت الأولى منذ العام 1972.

ومن الجائز الافتراض أن هذه المصافحة ستغني القذافي عن الثأر من أميركا التي اكتوت ليبياه بعقوباتها الاقتصادية وتجميد أموال لها في المصارف الأميركية على نحو التجميد المتواصل للأرصدة الإيرانية في هذه المصارف. وهي ستُغنِيه لأن أميركا ليست إيطاليا ولا هي سويسرا التي نجح الثأر القذافي منها ردا على احتجاز سلطات الأمن السويسرية خلال يوليو 2008 هنيبعل القذافي وزوجته الحامل، وكانا يقيمان في أحد فنادق جنيف. وذلك في ضوء شكوى خادمَين ادّعيا أن الزوجين أساءا معاملتهما ولم يُفرَج عن ابن القذافي وزوجته إلا بعدما أسقط الخادمان الشكوى، لكن التعامل الأمني مع هنيبعل والزوجة الحامل استخدم على ما يبدو أساليب غير ملائمة ولم يأخذ في الاعتبار مكانة ابن العقيد الذي كان بات يحمل لقب «ملك ملوك إفريقيا». وهذه الواقعة كان رد الفعل العائلي ـ الرسمي عليها متدرجا ومن دون التوقف عند أنه ليست لدى السلطات السويسرية اعتبارات لأي حالات خاصة.

في البداية أقامت الدولة الليبية دعوى قضائية ضد السلطات السويسرية مطالبة بدفع نفقات المحامين مع الفوائد وبتعويض نصف مليون فرنك سويسري بدعوى استخدام الشرطة لأساليب غير ملائمة خلال الاعتقال. وهي على نحو ما نشرَته وسائل الإعلام السويسرية «أن الشرطة لم تتردد في استخدام القوة الجسدية والتصرف بوحشية وتعمُّد أكثر الطرق إذلالا على رغم انعدام المقاومة». بعد ذلك قطعت ليبيا إمدادات النفط إلى سويسرا وسحبت من البنوك السويسرية أصولا قيمتها تتجاوز خمسة بلايين دولار. وعندما بدأت مفاعيل الثأر تأخذ طابع شعور الدولة السويسرية بالأذى فإن ليبيا انتقلت إلى المرحلة الثالثة من الثأر وهي المطالبة أن تعتذر سويسرا عما جنَته أيدي السلطات المختصة في حق الابن هنيبعل الذي استمر اعتقاله يومين، واحتجزت اثنين من الرعايا السويسريين، كما أن هيئة الطيران المدني الليبية اعتذرت عن استقبال الرحلة الوحيدة لطائرة شركة الخطوط السويسرية بسبب مشكلات فنية غير محددة. وإلى الثأر الرسمي تحركت اللجان الثورية وشهدت طرابلس تظاهرات تندد بالدولة السويسرية وترفع صور العقيد القذافي بزيه الليبي وصور هنيبعل بقميص «الجينز».

حاولت سويسرا بأسلوب دبلوماسي معالجة الأمر وأرسلت وزارة الخارجية وفدا إلى طرابلس ونفت تعرُّض هنيبعل لمعاملة سيئة وهو في الاحتجاز. لكن ذلك لا يكفي لأنه ما زال دون الحد المقبول لـ«الدية» المطلوبة من دولة الحياد (سويسرا). وعندما تفاقمت الأزمة ووصلت إلى حد أن فصل الشتاء على الأبواب وهذا يعني استباق ما هو أعظم مثل أنفلونزا الخنازير التي تنتشر بسبب موجات البرد القارس، فإن الأخ معمر استعمل الطلقة الثأرية الأقوى وقال في قمة الثماني وعلى هامشها كلاما في غاية القساوة عن سويسرا. وقد أصابت الطلقة حيث إن الرئيس السويسري هانس رودونو مرتس توجه إلى طرابلس يوم الخميس 20 أغسطس 2009 وقال في مؤتمر صحافي مبثوث على الهواء لكي يسمعه الليبيون «أقدِّم اعتذاري إلى الشعب الليبي على اعتقال شرطة جنيف دبلوماسيَّين ليبيَّين ظُلمًا». وأضاف بحضور أمين اللجنة الشعبية العامة (التسمية الثورية لرئيس الحكومة في ليبيا) البغدادي علي المحمودي: «اليوم نفّذتُ مهمتي وحققتُ أهدافي وهي طي صفحة العام الماضي وفتْح الطريق أمام الشركات السويسرية للعودة إلى السوق الليبية. إنها نتيجة مُرضية بالنسبة إليّ». لكن المحمودي على رغم ذلك اعتبر الاعتذار «مجرد خطوة أولى»! يكفي إحراجا يا أخ البغدادي لرئيس حضاري قام بدور يعتمد على الحكمة.

يا لثارات الأخ معمر التي تتوالى ثأرا بعد آخر مع ملاحظة أن ما حصل لعبد الباسط المقرحي المستعاد إلى ليبيا من السجن الاسكوتلندي كان حالة ابتهاج حل فيها الشكر لحكومة اسكوتلندا ولرئيس حكومة بريطانيا محل الثأر. وأما الطلب الأميركي بأن يوضع عبد الباسط في الإقامة الجبرية فإنه كان مجرد مداعبة إذ ما الذي تخشاه الإدارة الأميركية من رجل على موعد مع الموت في أي لحظة بسبب السرطان الذي ينتشر في بدنه واضعا الرجل في الإقامة السرطانية.. التي هي أقسى على النفس من الإقامة الجبرية.