بين المواجهة والاحتواء

TT

بين حرب الخيار الخاطئ في العراق، وحرب الضرورة الضاغطة في أفغانستان... تجد إدارة الرئيس باراك أوباما نفسها في موقع شرق أوسطي لا يحسدها عليه حتى الرئيس السابق جورج بوش.

في العراق يواجه أوباما احتمالا قائما ـ وربما مؤكدا ـ بأن يضطر إلى سحب القوات الأميركية من أراضيه بحلول يناير (كانون الثاني) 2011، أي قبل سنة من الموعد المقرر لذلك، في حال اقترعت أكثرية العراقيين لغير صالح الاتفاق الذي يحكم الوجود العسكري الأميركي في العراق.

واقتراع أكثرية العراقيين بـ«لا» ـ كما بات مرجحا ـ في الاستفتاء المقرر إجراؤه في يناير (كانون الثاني) المقبل يستتبع انسحاب الحكومة العراقية من الاتفاق، وبالتالي اضطرار الولايات المتحدة إلى تقديم موعد انسحاب قواتها من العراق سنة كاملة.

أما في أفغانستان، حيث حرّك فقدان حكومة كابل سيطرتها على جنوب البلاد وتزايد أعداد القتلى من الجنود الأميركيين والبريطانيين، ذكريات الأيام السوداء للاحتلال الأميركي للعراق، فقد بدأ بعض المحللين السياسيين بالحديث عن تكرار أميركي محتمل لسيناريو النهاية المذلة للاحتلال البريطاني، في القرن التاسع عشر، ومن بعده الاحتلال السوفياتي في القرن العشرين. مؤشرات كثيرة، ميدانية وسياسية، تشير إلى أن حرب أفغانستان لم تعد مضمونة النتائج، الأمر الذي يعكسه ازدياد تململ الرأي العام الأميركي والبريطاني حيالها، وارتفاع نسبة معارضي الحرب في البلدين.

ويبدو اليوم أن مشكلة الولايات المتحدة الرئيسية في حرب أفغانستان تكمن في أن استمرارها ورطة... والخروج منها مأزق، فإذا كان يمكن، دستوريا وديمقراطيا، تبرير الانسحاب العسكري المبكر من العراق بنتيجة الاستفتاء المقترح على الوجود الأميركي في العراق، وإذا كان هذا الانسحاب يخلف بنى تحتية جاهزة لعودة الدولة إلى وضعها السابق، فإن أي انسحاب مبكر من أفغانستان من شأنه أن يوحي بأن الغرب فقد «مخالبه»، من جهة، وأن يحوّل أفغانستان، من جهة ثانية إلى ساحة حرب تتداخل فيها الحوافز الأصولية والدوافع القبلية، بحيث إن «تمددها» إلى دول الجوار، وخصوصا باكستان، لن يكون مستبعدا، علما بأن «طالبان» أصبحت اليوم أقرب إلى شراذم مسلحة تفتقد إلى وحدة الصف والعقيدة معا، يعكس وضعها، بأمانة، تركيبة أفغانستان الإثنية المعقدة التي ترشحها لأن تكون مثلا يضرب للفسيفساء القبلية والمذهبية التي تحبط قيام الدولة العصرية في العالم النامي. هذه الشراذم المسلحة يجند الغرب قواه العسكرية وموارده المالية لمحاربتها انطلاقا من استراتيجية عسكرية متقدمة تدرّس في «وست بوينت» أو «ساندهرست» ليختبر تطبيقها على ساحة حروب بدائية. والسؤال الذي تطرحه تطورات المواجهة بين خريجي «وست بونت» و«ساندهرست»، من جهة، و«ثوار» جرود «هلمند» الوعرة من الجهة الثانية هو: هل تستأهل حرب أفغانستان كل هذه الجهود الغربية وكل هذا الإنفاق الغربي (وبالمنظور الأميركي ـ البريطاني كل هذه التضحيات البشرية والأعباء المادية) إذا كانت نتيجتها العسكرية غير مضمونة وحصيلتها السياسية غير مناسبة لسمعة الغرب في العالم النامي؟

يكفي أن تتوصل واشنطن ولندن إلى استنتاج واقعي بأن «تعايش» الأفغان مع الأجنبي من رابع المستحيلات، وأن أي حملة عسكرية، مهما كانت محكمة، لن تفلح في تطويع بلد أثبت تاريخه على مدى القرنين الماضيين أنه لا يحكم من الخارج ـ كما لا يحكم من الداخل أيضا ـ لاعتماد استراتيجية جديدة، أقل مغامرة وأفضل مردودا من الحرب المفتوحة: استراتيجية «الاحتواء» التي بشر بها الدبلوماسي الأميركي المعروف، جورج كينان، بعد الحرب العالمية الثانية وطبقتها الولايات المتحدة، بنجاح مذهل، حيال الاتحاد السوفياتي. لم يعد المطلوب، أميركيا، من حرب أفغانستان إقامة الدولة الديمقراطية المثالية، بل تحقيق الحد الأدنى من أهدافها، أي الحؤول دون تحول أفغانستان إلى عامل تهديد جدي لباكستان (النووية) وإلى موئل للإرهاب والتيارات المتشددة، وبالتالي إزالة مبررات تدخل دول الجوار بشؤونها.

... إذا كانت سياسة الاحتواء الأميركية نجحت في إسقاط الدولة العظمى الثانية في العالم فهل يعقل أن تفشل في «تدجين» أفغانستان، خصوصا إذا ترافقت مع عقوبات دولية؟